مقتربات التجريد في الخزف الاسلامي

تحمل الفنون الاسلامية في طياتها صفة الفن المجرد، والذي يقوم على قوانين خاصة تعبر عن شخصية ثابتة ولغة تشكيلية واحدة.. فقد جاء الفن الاسلامي بمفهوم ينسجم مع بنية الإسلام  وتطورات العصور ومناخاتها الفكرية وفلسفاتها الروحية، ويتجلى كل ذلك في وحدة اللغة ووحدة العقيدة وهما أعظم وسائل التماسك الحيوي والنمو الحضاري عند المجتمعات.

لقد برهن الفن الاسلامي بكل جلاء على قدرته على التجدد والانبعاث، فلو نظرنا إلى مفهوم التجريد في الفن الإسلامي لوجدناه يمثل السمة العامة لهذا الفن وليس احد مذاهبه أو فروعه، وهو ينبع من التصور الإسلامي للوجود.. الذي يكون محكوماً بمطلق قيمي أوجده الله جل وعلا مبدع هذا الكون اللامتناهي، والذي بيده صيرورته والمنزه عن التخيل أو التمثيل.

 وعلى ذلك فالمرجعية والاطار القيمي في التصور الإسلامي متجاوز لهذه الطبيعة المدركة بالحواس، لأنها قائمة على مفهوم الوحي من الله إلى الرسول محمد صلى الله عليه وآله، وبذلك تكون الثوابت مفارقة لعالم المادة لأنها غيبية، وقد درجت العادة في تفسير طغيان الفن التزييني المرتكز على اشكال تجريدية في الفنون الإسلامية، على انه نتيجة تحريم القرآن الكريم للرسوم التي يمثل فيها الشكل البشري فضلا عن المجسمات، بحيث ان الاسلام قد فرض بالنتيجة ان يقتصر الامر فيه على الرسوم الهندسية التجريدية، إلا ان الحقيقة عكس ذلك، فالإسلام امتلك رؤية فلسفية خاصة تبرر استخدامه للأشكال التجريدية، فالروحية الاسلامية تجنب التقرب من الفن التجسيمي خوف الوقوع في المحظورات والشبهات، فوجدت لها الضمانات الافضل في استخدام الفن التجريدي.

لم يجد منهج المحاكاة المباشرة للأشكال والاشياء تربة خصبة في الحضارة الاسلامية التي حددت اطار عاما لتداول الصورة، لذا ابتعد الفنانون المسلمون عن محاكاة الواقع لاسيما محاكاة الاحياء متأثرين بالعقيدة الإسلامية وطبيعة حياتهم الاجتماعية قبل الإسلام، وتمثل ذلك في لجوئهم إلى تحوير وتجريد الاشياء التي ادركوها، أو تكيفها بحيث تبتعد عن أصلها في الطبيعة، وكان نتيجة ذلك استعمالهم الزخارف النباتية الهندسية والخطية التي عبرت عن معتقداتهم وافكارهم وتصوفهم وتأملهم العميق في الطبيعة، إذ اصبح لكل شكل زخرفي لديهم معنى عميق، والمسلم ومنذ بداية الدعوة الاسلامية ارتبط بهذه النظرة الشاملة التي يعوقها التركيز على النظرة الجزئية العارضة ، وانعكس هذا في الفن الإسلامي كـتجريد الطبيعة من اشكالها الحقيقية واخترع بالرياضة الذهنية القوانين الهندسية التي تعد أرضية لفهم التجريدات الهندسية الإسلامية، لذا صار الفن الإسلامي من اكثر الفنون وأكبرها تجريدية لأسباب آيدلوجية فكرية خاصة، مرتبطة بشكل مباشر بالشريعة والعقيدة ، فالفن الذي لا يحاكي الصورة الواقعية ويبتعد عن التشخيص سوف يكون في المقابل فنا يحاكي ويخاطب المطلق.

 يظهر التجريد الاسلامي جلياً في اغلب الطرز المعمارية وعمارة المساجد والخط العربي المنتشر بين الوحدات الزخرفية المرسومة على الجدران او المنقوشة على الخزفيات .. وللتعبير عن رؤية هؤلاء الفنانين للعالم والانسان، لجأوا إلى استخدام صيغ هندسية تجريدية ذات قيم زخرفية لتشكيل عناصر مستقلة بذاتها، ومبادئ اصطلاحية تنظم العلاقة بين الاشياء وتعيد صياغتها من جديد داخل المساحة التشكيلية، انطلاقا من مفاهيم جمالية خاصة لم يكن همها تمثيل العالم المرئي أو محاكاته، بل تفسيره والتعبير عنه بأشكال مجردة.

 

لو دققنا النظر في الأشكال الزخرفية التجريدية المنفذة على الخزف بأنواعه المختلفة، لوجدنا انها تمثل التعبير الاكثر ملائمة لفكرة وحدانية الله الكامنة خلف تنوع العالم اللامحدود، فالمساحات المزخرفة في الخزف الإسلامي تتحول إلى صفحات يتآلف فيها النور الالهي الذي يخرج الاشياء من ظلمة العدم، فالله نور السماوات والارض وليس من دلالة على وحدانية الله عز وجل اكثر اكتمالا من النور، وهنا تتحول المادة إلى مجموعة من ارتدادات ضوئية تنشرها في الفضاء التشكيلي الخزفي عناصر التأليف التجريدية الهندسية على اختلاف اشكالها.

مَيَزَ الفنان المسلم بين فعل اليد والعقل من حيث انهما مفتاح للصنائع البشرية، وايضاً بين دور النفس التي هي جوهر الهي مدبر لأفعال الانسان وانشطته.. اذ ان الصور المجردة لفن الخزف والتجريد الهندسي الخالص، ما هي الا نوع من الصور الفنية اليدوية، واليد البشرية من شأنها تحويل قوة النفس الى فعل، حيث تقوم بتحريك وتحويل المادة الخام لأشياء الصورة المجردة، اي خطوطها واشكالها والوانها، على السطح التصويري.. اما العقل فمن شأنه تنسيق الاجزاء والهيئات التصويرية بالمقادير والالوان، ويتم ذلك بعد تخليص الاشكال من آثار الطبيعة المادية سواء كانت هذه الاشكال ذات اصول طبيعية اي فن الخزف  ام من معطيات العقل كالتجريدات الهندسية الخالصة وصور الخط العربي.

وبذلك فالفنان التجريدي المسلم، حينما يشكل صورة من خلال المادة الخام للأشياء المجردة، بواسطة يده وعقله، انما يجعل هذه الصور تتناسب ورغبة النفس بحسب استعدادها لقبول الصور حيث ان النفوس اذا كانت طاهرة فإنها تدرك صور الأشياء الروحانية التي في عالمها، وتشاهد الأمور الغائبة عن حواسها بعقلها وصفاء جوهرها، وبذلك تكون قادرة للوصول الى الله تعالى.

اعداد

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات