قال الحسين عليه السلام في (القياس في التوحيد)

" قال الحسين عليه السلام  : يا نافع ! إن من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الارتماس ، مائلا عن المنهاج ، ظاعنا في الاعوجاج ، ضالا عن السبيل ، قائلا غير الجميل ، يا ابن الأزرق ! أصف إلهي بما وصف به نفسه ، وأعرفه بما عرف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، فهو قريب غير ملتصق ، وبعيد غير منتقص ، يوحد ولا يبعض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلا هو الكبير المتعال ."

بعض مفردات الرواية :-

( القياس ) = القِياسُ لغةً : التقدير , في لسان العرب قاس الشيء يقيسه قيسا وقياسا واقتاسه وقيسه إذا قدره على مثاله ، وفي الفقه : هو عبارة عن سراية حكم أمر على أمر آخر بدليل وجود نوع من المشابهة بينهما ويسميه المناطقة تمثيلا. والمقصود من القياس في بعض كلمات اهل البيت عليهم السلام : التماس العلل لغاية تصحيح النصوص وعرضها عليها، والقياس بهذا المعنى كان رائجاً في عصر الإمام الصادق -عليه السلام- ( أنظر أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه للشيخ السبحاني ) والمعنى اللغوي هو المقصود من كلام الإمام الحسين عليه السلام .

( الإرتماس ) =  إرتمس في الماء : انغمس فيه 

( ظاعنا ) = سائراً , في لسان العرب ظَعَنَ يَظْعَنُ ظَعْناً وظَعَناً بالتحريك وظُعوناً ذهب وسار ... وقد يقال لكل شاخص لسفر في حج أَو غزو أَو مَسير من مدينة إلى أُخرى ظاعِنٌ .

موضوع الرواية:

موضوع كلام الإمام عليه السلام هو بطلان القياس و المخاطب به هو نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي البكري الوائلي. مؤسس فرقة الأزارقة إحدى فرق الخوارج , فذكر عليه السلام جملة من الآثار المترتبة على من بنى توحيده على القياس .

فالقياس في الدين على نوعين قياس في الإعتقاد وقياس في الفقه والأول باطل بالجملة والثاني باطل في الجملة , أما الأول الذي هو موضوع كلامنا كان رائجاً بعد إستشهاد النبي صلى الله عليه وآله في عهد الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام فلذا وردت الروايات الشريفة عنهم عليهم السلام بالنهي عن القياس نهياً شديداً وجعلوه كفر وضلال , والقياس في هذا القسم مأخوذ بالمعنى اللغوي الذي هو التقدير فكان المرتدين المخالفين لأهل البيت عليهم السلام يستعملوه في وصف الباري عز وجل والنبي صلى الله عليه وآله , فكانوا يقيسون الخالق على المخلوق فيصفون الله - تعالى عن ذلك علواً كبيرا – أن له يد وأرجل وله مكان يجلس فيه مثلنا ويصعد وينزل وغيرها من الإنحرافات . ففي هذه الرواية الشريفة يتناول الإمام الحسين عليه السلام القياس ويذكر فيه آثار القياس وبعض النماذج التي إستعمل المخالفون فيها القياس في التوحيد ..

وجه بطلان القياس في التوحيد:

إن كل عاقل يدرك عدم وجود تلازم في مشابهة المصنوع للصانع وإن كان إنساناً عادياً , فمثلاُ هل نستطيع أن نقول أن جسم النجار فيه باب لأنه صنعها , كلا . إذاً لا نستطيع وصف ذات الصانع إذا كنا نجهل حقيقتها إلا بما وصف به نفسه , فهاهنا دعويان :

أولاً : هل نعرف حقيقة ذات الخالق ؟ بمعنى هل شاهدناها ؟ كلا وأنى لنا ذلك , لإستحالتها عقلاً لإتفاق الكلمة على وجوب وجود الخالق فلو كان جسماً لإفتقر إلى المكان والإفتقار يقتضي الإمكان وهو باطل , فإذا كانت الجسمية مستحيلة كانت المشاهدة سالبة بإنتفاء الموضوع .

ثانياً : خالق الكون هل وصف لنا حقيقة ذاته ؟ أي بمعنى هل جسَم لنا نفسه ؟ كلا بل منع ذلك , فيقول عز وجل في كتابه الكريم (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))  فالجسمية نوع مشابهة فيشملها النفي,  و (( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ))  ((لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))  فمنع المشاهدة منعاً أبدياً , فإن قلت : إنه وصف نفسه بالجسمية في بعض الآيات التي ظاهرها أنه على كرسي أو إنه يأتي مع ملائكته . قلنا لك : هو مأول كما تأولون الظاهر على النص فإمتناع الجسمية حقيقة ثابتة عقلاً وما ذكرتموه ظاهر لفظاً فالتأويل هنا أظهر وأسهل .

ففي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام تغني الباحث عن الحقيقة ، قال السائل: رحمك الله فأوجدني كيف هو؟ وأين هو؟ قال: "ويلك ان الذي ذهبت اليه غلط، هو أيَّن الأين وكان لا أين، وهو كيَّف الكيف وكان ولا كيف، لا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء، قال الرجل: فإذاً إنه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس، فقال أبو الحسن عليه السلام: ويلك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذ عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا انه ربّنا خلاف الأشياء ـ إلى ان قال: ـ فلم لا تدركه حاسّة البصر؟ قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين  تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم، ثم هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل" .

الآثار المترتبة على القياس في الدين التي ذكرت في الرواية الشريفة :

فيذكر عليه السلام خمس آثار مترتبة على القياس :

أولاً :- ( لم يزل الدهر في الارتماس ) أي سيبقى منغمساً في الجهل والضلال .

ثانيا :- ( مائلا عن المنهاج ) أي حاد وترك الطَّريق الواضح .

ثالثاً :- ( ظاعنا في الاعوجاج ) أي سائراً مرتحلاً في إنحناءٍ عن الطريق المستقيم .

رابعاً :- ( ضالا عن السبيل ) غافِلاً عنْ طريق الحق .

خامساً :- ( قائلا غير الجميل ) أي سيكون قبيح الرأي في مسائل الدين .

كيف نصف الله تبارك وتعالى ؟

يكمل الإمام الحسين عليه السلام كلامه في كيفية وصف الباري تعالى فيبدأ ( أصف إلهي بما وصف به نفسه ) فالله عز وجل وصف نفسه في كتابه وفي مخلوقاته ( وأعرفه بما عرف به نفسه ) ففي توحيد المفضّل عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ان العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار، ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته، فإن قالوا: فكيف يكلّف العبد الضعيف بالعقل اللطيف ولا يحيط به قيل لهم: إنما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم ان يبلغوه، وهو ان يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته "  ( لا يدرك بالحواس ) تقدم نفي الجسمية عنه فإدراكه بالحواس سالبة بإنتفاء الموضوع (ولا يقاس بالناس ) فكيف يُقدر على مخلوقاته ونحن نجهل حقيقة ذاته ( فهو قريب غير ملتصق ) قال تعالى "(( وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))  ( وبعيد غير منتقص , يوحد ولا يبعض , معروف بالآيات , موصوف بالعلامات , لا إله إلا هو الكبير المتعال ) .

الكاتب / ابراهيم السنجري 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): سورة الشورى: 11.

(2): سورة الأعراف : 143 .

(3): سورة الأنعام: 103.

(4): التوحيد: ص251و252ب36ح3

(5): توحيد المفضل: ص177 المجلس الرابع.

(6): سورة ق:16.

gate.attachment