لا شك ان اسمى غاية لدى الانسان منذ ان وجد على هذه البسيطة هي ادراك الكمالات ومعرفتها والوصول الى الكمال المطلق لتتم استقامة حياته بجميع اشكالها واحوالها الدينية والدنيوية والاخروية فقد يخطأ في تشخيص الطرق الموصلة الى ذلك بخطأ ادواته المعرفية فلا بد اذن من المعرفة الصحيحة وهي ادراك الشيء عن دليل، سواء كانت معرفة عقلية اونقلية والبحث يدور على مدارهما فمن اراد معرفة الكمال والوصول اليه فلا بد من معرفته تمام المعرفة ليتم المطلوب .
حاصل الكلام حول معرفة الله تعالى..
ومعرفته هي ادراك نعوته وصفاته الجلالية والجمالية عقلا ونقلا فينبغي التنبيه على ان شرف العلم بشرف المعلوم وكلما كان المعلوم أجل وأقدس كان العلم به اولى من غيره فهو اشرف موضوع واقدس حقيقة وأجل معرفة وما يبحث بالاشرف أشرف فذات الباري تعالى اشرف المعلومات وأقدسها فهذه جهة شرفية هذه المعرفة على سائر المعارف والعلم بها مقدم على بيقية العلوم و لهذه المعرفة من الشرفية والرتبة على غيرها من جهة تنتهي العلوم الشرعية اليها كلها ولذا سمي هذا العلم بالعلم الاعلى وعلم اصول الدين فهو ما يبتني عليه غيره، اذن انه اصل العلوم الشرعية وعليه ابتنائها ولهذا ان من اراد الوصول الى معرفة الكمال لا بد من ان يعرف ان للعالم خالق قادر عليم حكيم، فهذه المعرفة يتكفل ببيانها العقل فهو يدرك وجود الباري تعالى معرفة وجودية من انه يوجد خالق لهذا النظام وما عليه من انظمة تدل على وجود المنظم ومن الاثار على وجود المؤثرقال تعالى:{ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } وسُئل مولانا امير المؤمنين عليه السلام على اثبات الصانع فقال : (البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير). اشار صلوات الله عليه ،على انه كل اثر لا بد له من مؤثر وكل مصنوع يحتاج الى صانع وهذا واضح بالوجدان.
اذ ان المعلوم ان مصاديق هذه القاعدة محيطة بنا فهذه السماء الشاسعة والارض المنبسطة والبحار والمحيطات والمخلوقات لا بد من خالق وصانع لها، وكل ذلك متوقف على المعرفة فوجوبها :
أولاً: دافعة للضرر المحتمل والخوف الحاصل من اختلاف العقلاء من بني البشر ودفعها واجب لانه الم نفساني يمكن دفعه فلا بد من دفعه فيجب دفعه بالمعرفة.
حيث اننا نرى العقلاء على اختلاف امكنتهم وازمنتهم وعاداتهم وتقاليدهم بعقائدهم بخالق هذا الكون كالنصارى واليهود والمجوس وهم يعتقدون ويعرفون خالق لهذا الكون و يشركون به فهل تكفي هذه المعرفة؟!! .
ثانيا: لزوم شكر المنعم لانه تعالى منعم على مخلوقاته حيث افاض عليها الوجود وكل منعم يجب شكره (فلو ان شخصا انعم على احد بمال لكي يقضي منه حاجته بالبداهة يشكره على فعله هذا)، فكيف بالذي خلقه وافاض عليه الوجود وخلقه للبقاء لا للفناء وهي من اعظم النعم فكيف تشكره اذا لم تعرفه؟ ،لان من وجب شكره وجبت معرفته اذ كيف تشكر من انعم عليك ولم تعرفه لربما يكون ذلك اهانة له لان الشكر لا يكون الا بما يناسب حال المشكور، قال امير المؤمنين عليه السلام: منْ ذا يعْرف قدْرك فلا يخافك، ومن ذا يعْلم ما انْت فلا يهابك...
اذن لا بد بالتامل والتفكر والنظر واقامة الاستدلال والبرهان بمعرفة وجوده تعالى وصفاته الكمالية والجلالية وعظمته فنؤدي شكره ولهذا اشار مولانا امير المؤمنين عليه السلام في كلمة بليغة هي من عيون الكلام يؤكد فيها هذا المعنى في قوله: أَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ، وَمُسْلِّمَةً لَهُ، وقال في موضع آخر(لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته) فهو سبحانه حجب العقول عن تحديد اوصافه ولم يحجبها عن التعرف على وجودها عقلا، فحقيقته سبحانه غير معلومة ،اشارالى ذلك السبزواري في منظومته: (مفهومه من اعرف الاشياء ........ و كنهه في غاية الخفاء) فلا يمكن العلم في الذات المقدسة كذلك الاطلاع على كنه حقيقته او تحديد اوصافه و اسمائه فلا تؤخذ الا منه او من نصبهم على مكنون سره قال تعالى: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (*) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }الصافات 159_160 ، فعباده المخلصين هم يصفونه بما علمهم لانه تعالى اعلم بحاله وبما يليق بشأنه لان العقل مهما بلغ يكون محدودا وهو تعالى غير محدود ويستحيل احاطة المحدود بالامحدود ومن هنا يجب الرجوع بمعرفة اوصافه وافعاله الى الشرع المقدس من اية و رواية قال تعالى:{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} طه (110)، نعم ان الذي ندركه عنه تعالى بالعقل هي صفات الكمال والجمال و تنزيهه عن صفات النقص فهل تكفي هذه المعرفة الوجودية وتغني وتوصل الى الحق؟ ام هناك معرفة اخرى فالتسمى معرفة الاتباع، والجواب : لا تكفي هذه المعرفة الوجودية والا لماذا بعث الانبياء والرسل وأوصيائهم الا لكونهم واسطة بينه تعالى وبين خلقه فلابد من معرفة الاتباع فيتم بذلك معرفته تمام المعرفة قال الله تعالى:{ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:165)، اذن ارسال الانبياء واوصيائهم عليهم السلام لهداية البشرية ووصولهم الى الكمال فإن ارسالهم لطف من الله واللطف :هو ما يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية، وتقريب الناس من الايمان به تعالى وابعادهم عن الشرك هو عين المعرفة والكمال وخير شاهد على ذلك (سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مع المشركين اذ كان يدعوهم الى الهدى فلا يستجيبون فجاهدهم حق جهاده و من بعد ائمة الهدى الذين يدعو الى الله و صراطه المستقيم فان من والاهم فقد والَ الله و من عاداهم فقد عادا الله، هم الصراط الاقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء و من لم يأتهم فقد هلك، الى الله يدعون وعليه يدلون وبه يؤمنون قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة (119)، ومن اصدق من قولهم، ذكر الشيخ الطوسي والسيد الكفعمي والسيد ابن باقي: انهم قسّموا اليوم الى انتي عشر ساعة ونسبوا كل منها الى امام من الائمة الاثني عشر ومما ورد في الساعة الثانية عشر لامام العصر و مدارالدهر وهي من اصفرار الشمس الى غروبها وهذا هو الدعاء (يا من توحد بنفسه عن خلقه ، يا من غني عن خلقه بصنعه ، يا من عرف نفسه خلقه بلطفه...) الشاهد بما عرّف نفسه بلطفه فهم اللطف الذي عرف الله تعالى نفسه بهم قال تعالى :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}الذاريات(56)، وقال النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله): (أول عبادة الله المعرفة به) و قال سيد الموحدين علي بن ابي طالب عليه السلام: ( أول الدين معرفته) ، فمن هذين الحديثين الشريفين يتبين ان المعرفة من شرائط العبادة و مقدماتها ولا تتم المعرفة التامة الا بمعرفتهم لان من عرفهم عرف الله جاء في الاثر عن سيّد الشهداء عليه السلام قال: (أيّها الناس !.. إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه ، فقال له رجلٌ : يابن رسول الله !.. بأبي أنت وأمّي فما معرفة الله ؟.. قال : معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته) .
فيكون لنا علما ان معرفة الامام هي معرفة الله تعالى فهذه معرفة اتباع وتصديق وتسليم لقولهم وهو ما جاءت به الاثار عن الائمة الاطهار ففي الاثر: معرفة الله تعالى تصديق الله تعالى ،وتصديق رسوله ،وموالاة علي ،عليه السلام والائتمام به وبأئمة الهدى، والبرائة الى الله تعالى من عدوهم ،هكذا يعرف الله عز وجل، قال تعالى :{ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}يونس(35)، وفي الخبر الصحيح المتواتر عند الفريقين :(من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية)، فمن هو الامام اذن ؟ روى البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (يكون اثنا عشر أميرا " فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: أنه قال: " كلهم من قريش).
وروى مسلم عنه أيضا، قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله) فسمعته يقول: " إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ". قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: " كلهم من قريش "
فمعرفة الامام كمال وايمان لانه يوصل الى الله والى طاعته فمن اراد معرفة الكمال والمعرفة الحقة لله تعالى والوصول اليه لا بد من معرفة الامام والتقرب اليه لان للمعرفة درجات ومراتب مشككة وان المعصومين عليهم السلام يتميزون باعلى المراتب الخاصة بمعرفته تعالى وان الاقتراب من الاقرب والمعرفة له طاعة وكمال، وعدم المعرفة به والابتعاد عنه جهل وضلال فقد جاء في الخبر: ادنى ما يكون العبد مؤمنا ان يعرف الله تعالى نفسه فيقر له بالطاعة ويعرف نبيه فيقر له بالطاعة ويعرف امامه وحجته في ارضه وشاهده في خلقه فيقر له بالطاعة.
رُوي بسند معتبر..أَللّهمَّ عرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ رَسُولَكَ، أَللّهمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، أَللّهمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي، و ختام الكلام بحديث سيد الانام الحجة على الانس والجان قال: صلى الله عليه وآله : (إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا).
الكاتب / السيد رعد العلوي
اترك تعليق