شروط الإمامة... النص الالهي انموذجا

شهدت الإمامة دوراً حيوياً وفعالاً على مستوى الفكر والتاريخ، وبكل جوانبها المتعددة والمرتبطة بمحور الواقع السياسي الذي تمثله، ولا سيما في بحوث الفقه السياسي ونظام الحكم والادارة في الاسلام لما رافق المجتمع الاسلامي من انقسامات وعلى مستويات الفكر والعقيدة. وتطور تلك الانقسامات من مرحلة صدامية الفكر الى المواجهة بحد السيف فكان محركها الاساسي هو الاختلاف في مفهوم الإمامة والشرائط والموانع.

وعليه ان الاهمية التي تمثلها الإمامة في مسارات الحياة المتعددة فقد حددتها مدرسة أهل البيت بمجموعة من الشروط والضوابط الواجب توفرها لاستحقاقها والنهوض بمقامها وسمو مكانتها في تلك المسارات والتي تتمثل بــ"الامامة بالنص".

وتعده مدرسة أهل البيت "النص الالهي"  من الشروط الاساسية لاختيار الامام، او الخليفة، حيث جاء ذلك الاختيار بشكل غير مباشر في الأحاديث النبوية التي بلغت على لسان النبي الاكرم محمد "صلى اله عليه واله"، وبشكل مباشر في القرآن الكريم، وسوف نذكر منها آية من الذكر الحكيم التي تساق في مثل هذا الموضع، قوله تعالى ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾[1]

وقد اتفق المفسرين على انها نزلت في حق الامام علي "عليه السلام" على اثر تصدقه بخاتمه في صلاته واثناء الركوع [2] وقوله تعالى في اية التبليغ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾[3]  ان تلك الآية جاءت لتؤكد آلية النص الالهي وصحة تطبيقها لاختيار الامام حيث اصبحت مرتبطة بتبليغ الرسالة السماوية، والتي تعززت بقولة الله تعالى﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[4] حيث ان صحة التطبيق تتمثل بأن اتمام أمر الدين وكماله مرتبط بأمر امامة علي "عليه السلام" والائمة المعصومين من بعده [5].

اما ما ورد من الاسلوب غير المباشر على امامة علي "عليه السلام" حيث ان هناك الكثير من الاحاديث التي وردت في هذا المجال وان هذه الاحاديث تشكل اركان الادلة النقلية، وان من ابرز هذه  الاحاديث هو حديث الغدير ذو المضامين الفكرية المتجسدة لمصلحة الاسلام حيث اكد فيه النبي الاكرم "صلى الله عليه واله" على موالاة الامام علي ابن ابي طالب "عليه السلام" بقوله :" من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصه، واخذل من خذله"[6] ثم سلموا على الامام علي  بأمرة المؤمنين [7].

يبدو ان المعنى الاستدلالي لهذا الحديث يحمل في طياته ابعاداً تفوق البعد السياسي الا وهو البعد التكويني العقائدي الذي يهدف بالدرجة الاولى بلوغ الانسان الى مستوى الكمال بكلمة ادق ان الامام لديه اضطلاع واسع وشامل لدرجات القرب الالهي بمعرفته شؤون الناس، والتعرف الكامل على امور الحق والباطل، حين انه "عليه السلام" كان في غاية الذكاء والفطنة و شديد الحرص على التعلم و الاستفادتة، وكان معلمه أعلم الناس وافضلهم النبي الاكرم ولا شك في ان القبول اذا تم مع وجود فاعل التام كان الفعل التام حاصلاً[8].

في الوقت نفسه، وورد النص الالهي كآلية ذات ابعاد ومفاهيم تشريعية تجسدت في حديث الثقلين عن النبي الاكرم "صلى الله عليه واله": " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ما إن تمسكتم بهما لم تضلوا"[9] أذ ان النبي الاكرم كان حريصاً على وحدة المسلمين واجتماع الامة من بعده والتفافهم بالتمسك بالقرآن الكريم والائمة المعصومين عن الضلالة من الولادة وحتى قيام الساعة فالحاجة الى وجود العترة الطاهرة لا يفهم على انه نقص او قصور في القرآن الكريم، ولكن القرآن بحاجة الى من يفهمه ويفسره، وهذا ما اكده الامام جعفر بن محمد الصادق "عليه السلام" بان القرآن ذو وجوه وبيان لا يفهمه الا من عنده علم الكتاب بقوله عزو جل ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [10].

كما ورد تأكيد النبي الاكرم "صلى الله عليه واله" على قدوة أهل البيت "عليهم السلام" في فهمهم القرآن واستيعابهم العميق لمضامينه وعدم التفريق بينهما او الاستغناء عنهما يؤدي الى الهداية ، لان القرآن نور وهادٍ ويحتاج الى امام لبيان مضامينه وحل جميع القضايا العقائدية وهذا يعكس امتلاكهم قاعدة ومرتكز عقلي يؤهلهم للخوض في غمار العقيدة، وقد حرص ائمة اهل البيت على تعزيز المفهومين المباشر وغير المباشر لآلية التعيين بالنص بأقوالهم الواردة كما في قول الامام السجاد "عليه السلام":" الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوماً " [11] حيث ان الائمة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش، من الصغر الى الموت عمدا وسهواً[12]

وعليه لا يمكن للبشر التدخل في مسائل اختيار الامام لان اساليب المعرفة البشرية وقابلياتهم الحسية والعقلية محدودة لا تؤهلهم لهذا الامر كوقوله تعالى ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[13] وهذا ما اكده الامام الرضا بقوله :" ان الإمامة أجل قدراً وأعظم شاناً وأعلى مكاناً وامنع جانباً وابعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم"[14]. اذ ان الامام الرضا قدم وصفاً دقيقاً وشاملاً بالنص على الامامة بقوله : " ان الإمامة هي منزلة الأنبياء وارث الأوصياء ان الإمامة خلافة الله عز وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين عليهما السلام ان بالإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين"[15]

نستنتج من ذلك، ان اية الولاية تعد من اكثر الآيات التي تمسكت بها مدرسة اهل البيت "عليهم السلام" في اثبات امامة علي بن ابي طالب واحقيته بالخلافة، ولكن ايادي التعصب والتطرف من المفسرين ترى خلاف ذلك مع علمهم بالأدلة العقلية والنقلية المؤكدة على ارتباط نزولها بالأمام علي "عليه السلام" وانها دالة على الامامة والولاية ومن هؤلاء الذين رفضوا ان تكون الآية دالة على ذلك الفخر الرازي اشدهم رفضاً في تفسير "مفاتيح الغيب" عند تفسيره للآية الذي عمل جاهدا على  اقصاء الامام علي "عليه السلام"، حيث اتخذ من الاسلوب اللغوي طريقاً لا قصاء الامام علي "عليه السلام" من هذه الآية، بالرغم من انه على علم تام بدلالة الآية على الامامة والولاية على الامة فاخذ يعمل جاهدا لأبعادها عن معناها الحقيقي.

جعفر رمضان

 

[1] سورة المائدة: آلاية 55

[2] عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي ، الدر المنثور، (بيروت: دار الفكر)، ج3، ص 104-105؛  ابن المطهر الحلي، انوار الملكوت في شرح الياقوت، تحقيق:نجمی زنجانی،(قم ، 1353ش) ، ص226؛  رياض سحيب روضان ، علم الكلام عند صدر الدين الشيرازي، اطروحة دكتوراه، جامعة المستنصرية ، كلية الآداب ، 2010، ص34-35.

[3] سورة المائدة: آلاية 67.

[4] سورة المائدة: آلاية 2.

[5] عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، المصدر السابق ، ج3، ص19.

[6] ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم، سامي بن محمد السلامة،( دار طيبة،1999)، ج 4، ص 113 ؛ ابن حزم الأندلسي،  الفصل في الملل والأهواء والنحل، ( القاهرة ، مكتبة الخانجي)، ج 4 - ص 148 ؛ محمد أبو زهرة ،  تاريخ المذاهب الإسلامية،( بيروت: دار الفكر العربي)، ص 49 .

[7] ابن حنبل ، فضائل الصحابة ، تحقيق: وصي الله محمد عباس ، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1983)، ج2، 610؛ أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ، الاحتجاج ،( قم: منشورات شريف الرضي،1380ش)، ج1، ص135.

[8] جمال الدين مقداد، ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين، تحقيق: مهدي الرجائي، (قم: مكتبة اية الله المرعشي، 1405ه)،ص355-356.

[9]   أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، المصدر السابق، ج1، ص346.

[10] سوره الرعد : الآية 43.

[11] بن بابويه القمي الصدوق، معاني الاخبار، (قم : مؤسسة النشر الاسلامي، 1982) ، ص132.

[12] ابن المطهر الحلي، المصدر السابق، ص204.

[13] سوره الانعام : الآية 124.

[14]  بن بابويه القمي الصدوق ، عيون الاخبار الرضا، تحقيق مهدي الحسيني، (قم: مكتبة العلمية، 1957) ، ج1، ص217.

[15]  المصدر نفسه ، ص218.

gate.attachment