العنوان : قراءة نقديّة لمبحث المظلومية في كتاب (الشهيد الخالد) ج1​

 

الخلاصة

يُعتبر هذا المقال ردّاً على مقالٍ مقتبس من كتاب الشهيد الخالد للشيخ صالحي نجف آبادي، منشور في هذا العدد من مجلّة الإصلاح الحسيني، والذي تناول فيه قضية المظلومية في كربلاء، وأنّها لم تكن هدفاً من أهداف النهضة المباركة، وقد بيّن ذلك من خلال ردّه على أدلّة مَن ادّعى ذلك، مع مجموعةٍ من الاستبعادات والشواهد الأُخرى، وقد نسب هذا القول إلى المستشرق الألماني ماربين مارتين، وبيّن منشأ الخطأ في شياع القول: إنّ المظلومية من أهداف النهضة الحسينية، وقد قمنا بالردّ على النقاط التي ذكرها ببيان وجه الخلل فيها، والأدلّة التي على خلافها، والتصورات الخاطئة التي وقع فيها الكاتب.

تمهيد

من الأُمور المهمّة التي وقع فيها اختلاف بين العلماء والمحقّقين هو تحديد الهدف، أو الأهداف التي خرج من أجلها الإمام الحسين عليه السلام ، وهو بحثٌ دقيق وحسّاس، يستوجب على مَن يريد الدخول فيه أن ينظر إلى هذه المسألة من جوانب عديدة، وأن يجمع بين الأدلّة والشواهد التاريخية والفكرية والعقدية، من خلال منهج علمي، وعلى وفق مباني ورؤى واضحة.

وقد عُدّت المظلومية أحد أهداف نهضة الإمام الحسين عليه السلام ، وقد وقع اختلاف في إثبات هذا الهدف تبعاً للاختلاف في الرؤى حول هذه المسألة، ومن بين تلك الآراء ما طرحه الشيخ صالحي نجف آبادي، في كتابه: الشهيد الخالد شهيد جاويد في مسألة المظلومية، وهو يُعتبر من الآراء الخاصّة والشاذة، التي لا تمثّل الرأي المشهور للطائفة في هذه المسألة المهمّة من النهضة الحسينية[1].

ونحن نرى أنّ الكاتب لم يكن مُوفّقاً في إثبات رؤيته لمسألة المظلومية؛ وذلك إمّا لعدم الدليل الواضح على مُدّعاه، ممّا يجعل دعواه بدون دليلٍ أو شاهد، وإمّا لأنّ رؤيته لم تكن متكاملة حول ملابسات المسألة آنذاك، وإمّا لوجود الدليل المخالف على بعض فقرات دعواه. جميع ذلك أدّى بالكاتب إلى أن يذهب إلى بعض الآراء الشاذّة في هذه المسألة نوعاً ما، حتى في غير مسألة المظلومية، بحيث امتدّ تبنّيه للآراء الخاصّة في مجمل أبعاد النهضة الحسينية المباركة.

تنويه

لا يفوتني أن أُنوّه إلى أنّه ليس هدفنا من هذا المقال اختيار رأي بعينه، أو تحديد الصحيح من تلك الآراء، وإنّما هدفنا هو الرّد على كيفية العرض والاستدلال التي اعتمدها الكاتب في هذا الموضوع.

بيان أصل المسألة

يتمحور أصل المسألة حول الأمر التالي: وهو هل أنّ المظلومية من أهداف كربلاء التي سعى الإمام الحسين عليه السلام  لتحقيقها، أو أنّها أمر ثانوي تحقّق بسبب بشاعة الأعداء وظلمهم؟

فالرأي الأول يذهب إلى أنّ من أهداف الثورة الحسينية، بل من أهمّها هو تحقيق المظلومية، بمعنى أنّ الإمام عليه السلام  سعى لأن يكون مظلوماً وبأشدّ الصور، وهيّأ أسباب ذلك، وهذا ما يُعبّر عنه عادةً بنظرية الشهادة.

والرأي الآخر يذهب إلى أنّ الامام عليه السلام  سعى لأن ينتصـر، ويحقّق حكومة عادلة، إلّا أنّ ذلك لم يتحقّق؛ فكانت المظلومية، وهذا ما يُعبّر عنه بنظرية الحكومة.

وقد بيّن الكاتب أنّه لا يمكن قبول أنّ الإمام عليه السلام  أراد أن يُقتل بأبشع صورة، وأنّه هيّأَ أسباب ذلك القتل من أجل تحقيق المظلومية، ومع بطلان هذا الأمر يثبت أنّ الإمام عليه السلام  كان قصده من نهضته الوصول إلى الحكومة.

نقاشٌ وردٌّ

ربّما يتصوّر القارئ من بيان الكاتب أنّ في المسألة رأيين: إمّا الرأي القائل بالشهادة والمظلومية، وإمّا الرأي القائل بالحكومة، مع أنّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّ في هذه المسألة الحساسة عدّة آراء ونظريات[2]:

منها: نظرية الشهادة، كما عن ابن طاووس[3]، ومحسن الأمين[4]، والشيخ لطف الله الصافي[5] رحمهم الله، والسيد محمد سعيد الحكيم[6]، وغيرهم.

ومنها: نظرية الحكومة، كما قد يظهر عن الشيخ المفيد[7]، والسيد المرتضـى، والشيخ الطوسي[8] رحمهم الله، وغيرهم.

ومنها: إنّ الإمام عليه السلام  خرج لأجل حفظ نفسه، فهو لم يخرج لا إلى إقامة حكومة، ولا إلى الشهادة، قال الاشتهاردي: «خروج الإمام الحسين من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق لأجل حفظ نفسه، وليس لأجل الحرب والثورة وتشكيل حكومة»[9].

ومنها: تعدّد الأهداف وتنوّعها حسب الظروف المتغيرة وحسب المراحل، وهذه الرؤية أيضاً على أقسام بحسب التفصيلات التي ذهب إليها كلّ واحدٍ من المحقّقين، كما عن الشيخ الشهيد المطهري[10]، وكما عن السيد مرتضى العسكري[11]، وكما عن السيد الأُستاذ منير الخباز[12]، وكما عن الشيخ محمد جواد فاضل اللنكراني[13]، وغيرهم.

إذاً؛ فالأمر ليس كما يصوّره الكاتب من أنّه في هذه المسألة الحسّاسة يوجد رأيان، ومع بطلان أحدهما يتعيّن الثاني، فيصِل إلى مراده بأسهل الطرق، وإنّما هناك آراء متعدّدة، ومَن يريد أن يُبدي رأياً فعليه متابعة الآراء والأدلّة جميعاً، والآراء المتقدّمة، وإن كان بعض مَن قال بها ممَّن تأخّر عن زمن الكاتب، إلّا أنّ مَن كان في زمنه ومَن كان متقدّماً عليه فيه الكفاية لمرادنا.

السعي لتهيئة ظروف الشهادة

ممّا أثاره الكاتب وشنّع به على قائله أنّه كيف يمكن تصوّر أن يقال: إنّ الإمام سعى لتهيئة الظروف المناسبة لقتله، فهذا أمرٌ لم يقُل به أحد من الشيعة، ولا يوجد عليه أي شاهد أو دليل، ناسباً ذلك إلى مستشرق ألماني، حيث يقول: «لا يُعلَم من أين جاء هذا الرجل الألماني بفرض أنّ الإمام الحسين عليه السلام  كان يهيّئ لمقتله لسنوات متوالية؟! فأيُّ مؤرّخ ـ سواء أكان شيعيّاً أم سنّياً ـ كتب لنا أنّ الإمام عليه السلام  كان لسنوات عديدة يهيّئ مقدمات مقتله؟! إذا استطاع ماربين ـ أو أيُّ شخص آخر يفكّر مثل تفكيره ـ أن يأتي بدليل تاريخي يُثبِت لنا أنّ الإمام الحسين عليه السلام  كان قبل نهوضه بثورته البطولية ولو بساعة قد مهَّد وأعدَّ العدّة لمقتله.. فنحن مستعدّون من دون نقاشٍ قبول بقيّة كلامه، حتى وإن كان مجرّداً عن الدليل»[14].

نقاشٌ وردٌّ

قبل الدخول في نقاش ما تقدّم ينبغي أن نبيّن أمراً، وهو: ما المقصود من أنّ الإمام عليه السلام  سعى وراء تهيئة أسباب قتله؟

فهنا معنيان:

المعنى الأول: إنّ الإمام الحسين عليه السلام  قدّم نفسه كالقربان الذي يكون بيد ذبّاحه، ومن دون حولٍ ولا قوة، ولا مقاومة؛ فيكون بذلك قد سرّع مصـرعه، وأراح عدوه، وهيّأ الظروف وأعدّها لذلك، ثمّ بعد القتل ربّما تتحقّق فائدة من القتل المقدّس، ولا فائدة مرجوة أصلاً ـ بناءً على رأي الكاتب ـ وهذا المعنى واضح البطلان، بل هو من سخيف القول؛ لأنّ هذا موتٌ بذلّة وهوان، وضعف واستسلام، وهذه حالة تخالف أوضح النصوص الحسينية هيهات منّا الذلة، والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، وهكذا مقتل لا يمكنه أن يحرّك ضمير الأُمّة، ومشاعر المجتمع، وأحاسيس الأحرار.

فإن كان قصد الكاتب من أنّ الإمام عليه السلام  هيّأ ظروف قتله هذا المعنى، فهو ممَّا لم يقُل به أحد على الإطلاق، بل لم يقله حتى أعداء الإمام الحسين عليه السلام ، فضلاً عن علمائنا وعظمائنا، وهو رأي خلاف أوضح أهداف النهضة المقدسة، ومن المستبعد أن يكون الكاتب قاصداً لهذا المعنى.

المعنى الثاني: أن يكون المقصود هو أنّ الإمام عليه السلام  بما أنّه كان عالماً بمقتله، وأنّ هذا أمر سوف يؤدّي إلى حياة الأُمّة وإيقاظ ضمائر المسلمين، فلأجل ذلك كان عليه السلام  مسـرعاً لتحقيق مشروعه وهدفه الإلهي بأحسن صورة، ذلك المشروع الذي يرسم للأجيال أفضل المواقف البطولية والممانعة للظلم والطغيان والانحراف، فقد خطّ الإمام عليه السلام  بمواقفه وكلماته وأنصاره أروع نماذج المقاومة الحرّة والحقّة، وقد علّم بذلك أحرار العالم كيف يقولون: كلا. بوجه كلّ ظالم متهتّك جبّار. فكلّ مَن يراجع النهضة المقدّسة يتعلّم أنّه لا بدّ من المقاومة ولو في الرمق الأخير، ولا بدّ من المحافظة على العزّة ولو في أشدّ الظروف، فهذه هي المعاني التي سعى إليها الإمام الحسين عليه السلام ، وأسرع لتحقيقها، وهيّأ الظروف المناسبة لإبرازها بأفضل صورة، مع الحفاظ على جميع الشرائط العرفية والشرعية.

 

وهذا المعنى هو مقصود مَن ذهب إلى نظرية الشهادة[15]، وأنّ الإمام عليه السلام  قد سعى إلى مقتله وهيّأ الظروف لذلك.

وبناءً على هذا المعنى الثاني؛ فيمكن مناقشة الكاتب:

أولاً: إنّ بعض علماء الشيعة ذهب إلى نظرية الشهادة، وإنّ الإمام عليه السلام  ذهب إلى مقتله وهيّأ الظروف لذلك، قال السيد الحكيم: «كانت نتيجة اتّفاقه عليه السلام  مع الحرّ أن وصل إلى مكانٍ بعيد عن الكوفة، قريب من نهر الفرات، حيث الماء والزرع والقرى، وحيث يسهل تجمّع الجيوش لقتاله، ويصعب أو يتعذّر على مَن يريد نصـره الوصول إليه»[16]. إلى غير ذلك من كلمات الأعلام بهذا الصدد.

ثانياً: هناك شواهد تاريخية عديدة على نظرية الشهادة، وأنّ الإمام سعى لذلك، وقد ذكر بعضها السيد الحكيم في كتابه فاجعة الطف، تحت عنوان: الشواهد على أنّه عليه السلام  لم يتحرّ مظانّ السلامة[17]، وكذا ذكر الشيخ الصافي بعض الشواهد في مواضع متعدّدة من كتابه[18].

 

وبذلك يتبيّن أنّ دعوى الكاتب المتقدّمة ليست في محلّها؛ فهي خلاف التحقيق، ولا نريد أن نقول: إنّ نظرية الشهادة وكون الإمام سعى لذلك، نظرية صحيحة أو خاطئة. ولكن نقول: ليس من الصحيح أن يُقال: إنّها نظرية لا قائل بها، ولا شاهد عليها.

القتل بأفجع صورة

ناقش الكاتب دعوى أنّ الإمام عليه السلام  سعى لأن يُقتل بأفجع صورة، هو وأهل بيته، قال: «إنّ الإمام الحسين عليه السلام  لم يسعَ أبداً إلى جعل مصيبته أكثر ترويعاً، وإنّما سعى بكل ما يملك من قوّة إلى الدفاع والمقاومة، وجاهد حتى آخر رمق في حياته من أجل حفظ عياله وأهل بيته»[19].

نقاشٌ وردٌّ

يمكن النقاش فيما ذُكر من خلال بيان تصوير لمسألة الفاجعة يثبت أن الإمام عليه السلام  سعى لتحقيق أشدّ أنواع المظلومية، ومن دون أن يلزم أيّ إشكال أو نقض أو استبعاد، وذلك بأن نقول:

يمكن أن يكون الإمام عليه السلام  قد رأى في اليوم العاشر أو قبله بيوم[20] أنّه مقتول لا محالة، حتى وفق المعطيات الظاهرية الخارجية التي لا ربط لها بعلم الإمام عليه السلام  الغيبي، وفي مثل هذه الحالة وهذه الظروف من المناسب جدّاً أن يُظهر الإمام عليه السلام  بشاعة الأعداء، وتدنّيهم الخُلقي والثقافي والإنساني، على كلّ المستويات، ويبيّن مستوى الهمجية التي كان عليها هؤلاء، فبدل أن يموت الطفل الرضيع عطشاً في مهده، يموت وهو شامخٌ أمام الأعداء، تُخلّده الأجيال إلى قيام الساعة، وبدل أن يموت الإمام عليه السلام  ضامئاً عطشاناً بسكوت، يموت وهو طالب للماء، مبيّناً بذلك عمق الخسّة التي كان عليها هؤلاء، فالكاتب لم يميّز بين نوعين من المظلومية:

الأول: أصل المظلومية.

 والثاني: كيفية وحدود المظلومية.

فلو تنزّلنا عن الأول ـ وقد قبله الكثير ـ فلا يمكن أن نتنزّل عن الثاني؛ لأنّه هو الذي أبرز عامل المظلومية بشكلٍ واضح في تلك النهضة المباركة، وهو الذي خلّد المواقف الشجاعة والبطولية، فهو يعتبر مكمّلاً لصورة كربلاء الناصعة والمشرقة عبر الزمان.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ ما تقدّم من اعتراض الكاتب، تارة يُجاب عنه مبنائياً، وأُخرى بنائياً، فالأول بأن نقول: إنّ الشواهد والأدلّة قد قامت عند البعض على أنّ الإمام عليه السلام  قد سعى لتحقيق المظلومية من أول الأمر؛ لأنّ الهدف يقتضي ذلك.

وأمّا الثاني، فإنّه حتى مَن يرى أنّ الإمام عليه السلام  سعى للحكومة، قال: بأنّه عليه السلام  قد أدرك في اللحظات الأخيرة ـ من خلال الشواهد الظاهرية والمعطيات الخارجية ـ أنّ تحقيق الحكومة أمٌر غير ممكن، ولا سبيل إلّا الشهادة، حينئذٍ نقول: القتل والشهادة على أنواع، وأكثرها تأثيراً أشدّها فاجعةً، كما تقدّم.

بل حتى طلب العودة من قِبَل الإمام عليه السلام  ـ بناءً على ثبوته ـ كان يصبّ في هذا الأمر ويؤكّده؛ فإنّ الشواهد كانت تُشير إلى أنّ يزيد وجلاوزته لا يقبلون إلّا بأحد أمرين: إمّا البيعة والذلّة، أو القتل والشهادة، ومع ذلك فإنّ الإمام عليه السلام  عرض عليهم أن يَدَعوه يذهب، فالإمام عليه السلام  بموقفه هذا أثبت للتاريخ وللأجيال أنّ هؤلاء قومٌ طغاة متجبّرون، لا يحترمون الديانات ولا الحريات، ولا الفطرة السليمة.

فإن قلت: إنّ البشاعة التي عند الأعداء لا تحتاج إلى مَن يُظهرها ويُبرزها؛ فإنّ مَن يقتل وليّ الله وابن بنت نبيّه، ويقتل شخصيّة مثل شخصية الإمام الحسين عليه السلام ، لم يبقَ شيء من بشاعته وسوئه خافياً حتى يحتاج إلى الإظهار.

قلت:

أولاً: لو لم يُظهر الإمام عليه السلام  عبدالله الرضيع لما حصلت تلك الواقعة الأليمة، ولو لم يطلب الإمام عليه السلام  الماء لما تحقّق ذلك المظهر الرهيب.

ثانياً: ليس المدَّعى أنّ الإمام عليه السلام  أظهر كلّ ما كان خافياً في سرائر هؤلاء القوم، بل جلّها كانت ظاهرة، وإنّما الإمام عليه السلام  أبرز جوانب منها، والتي لولا إبرازه لها لما تبيّنت.

ثالثاً: ربّما تجد مَن لا يفهم معنى العالِم والإمام، والشخصية الإسلامية العظيمة، ولا يفهم معنى النبوة، بل ولا معنى الدين، إلّا أنّه يفهم معنى المظلومية وعمقها من خلال تصرفات الظالمين البشعة مع الأطفال والنساء، ومع مَن لا قوة ظاهرية مادية عنده.

رابعاً: إنّ قابلية فعل الشيء شيء، وفعل ذلك الشيء شيءٌ آخر، فمجرّد القابلية إمّا أن لا تُدرك، أو تُدرك ولكن لا يُدرك عمقها وأبعادها.

خُطَط الإمام عليه السلام  الدفاعية

فإن قلت: كيف تصنعون بموقف الإمام عليه السلام  الدفاعي؛ حيث رتّب الصفوف، وحفر الخندق، وأشعل النار، وما إلى ذلك من الخطوات التي تدلّ على أنّ الإمام عليه السلام  لم يُرِد أن يكون مظلوماً؟

قلت:

أولاً: إنّ الدفاع عن النفس هو الذي يعطي قيمةً للمظلومية، وهو الذي يظهر بشاعة الأعداء؛ لأنّ مَن يذهب إلى عدوّه ليقتله العدو لا قيمة لمقتله، فضلاً عن أن يكون قيمة التأريخ وثقله، كما تقدّم بيان ذلك.

ثانياً: إنّ الجمع بين الموقفين يمكن أن يكون من خلال التفريق بين أصل المظلومية وبين كيفيتها، كما تقدّم في الجواب البنائي.

ثالثاً: إنّ ما سعى إليه الإمام عليه السلام  هو أن يكون مظلوماً، لا أن يكون مسلوب الإرادة، مغلوب الرأي، ضعيف العزم والهمّة؛ فإنّ مَن يكون كذلك لا يُسمّى مظلوماً، بل هو مسلوب الإرادة، وإذا سُمّي مظلوماً فليس هو المظلوم الذي يشحذ الهِمم، ويقوّي العزائم، بل يكون محلاً للشفقة والرحمة والعطف.

رابعاً: بناءً على أنّ لله تعالى البداء في كلّ شيء، وفي كلّ لحظة فإنّ الإمام عليه السلام  كان يسعى للشهادة وللمظلومية، ومع ذلك كان يعمل عمل المقاوم لاحتمال البداء، سواء كان الإمام عليه السلام  يعمل على وفق علمه الغيبي، أو كان يعمل على وفق المعطيات الخارجية الظاهرية.

تحديد منشأ الخطأ

أفاد الكاتب أنّ منشأ الخطأ الذي دعا البعض إلى القول بنظرية الشهادة، وأنّ الإمام عليه السلام  سعى لتهيئة ظروف ذلك، هو ما قاله المستشرق الألماني: «حضـرت في تركيا برفقة مترجمي الخاص مآتم للحسين بن علي، وسمعت الخطباء يقولون كذا وكذا عن نهضة الإمام الحسين»[21].

ثمّ علّق على ذلك بقوله: « فهناك احتمال مطروح أنّ بعض الخطباء المحترفين والسطحيّين في تركيا قد بحثوا فلسفة النهضة الحسينية على أساس التصوّر القائل: إنّ الإمام الحسين قد نهض بداعي الاستشهاد..»[22].

أقول: إنّ ما حدّده الكاتب من منشأ الخطأ أمر لا يمكن قبوله؛ وذلك لأنّ من علمائنا مَن ذهب إلى هذا الرأي قبل ماربين بفترات طويلة، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وعلى هذا الرأي الكثير من العلماء والمحقّقين المعاصرين، فكيف يُصوّر الكاتب أنّ ماربين أخذ من بعض الوعّاظ في تركيا شيئاً، ثمّ أخذ عنه غيره ذلك الشـيء وانتشـر فيما بعد؟! فهذا تفسير وتصوير بعيد كلّ البعد عن الحقيقة والواقع.

القدوة والأُسوة

ذكر الكاتب أنّ الرأي المذكور لا ينسجم مع كون الإمام عليه السلام  قدوة، فمَن يذهب إلى مصرعه ومصرع رجالاته وأهل بيته لا يمكن أن يكون قدوة للآخرين، قال: «إذا أردنا أن نحكم ـ كما حكم ماربين ـ بأنّ الإمام أراد أن يُلقي بنفسه في دائرة القتل وعلى أسوء حال ممكن، مع سبعة عشر نفراً ـ تقريباً ـ من خيرة رجالات البيت النبوي...، فهل يصحّ جعل هذا الفعل نموذجاً يقتدي به المسلمون ويسيرون على ضوئه؟!»[23].

أقول: هذا كلام بيّن البطلان؛ فالإمام الحسين عليه السلام  أُسوة في الوقوف بوجه الظلمة، ونصـرة المظلوم، وفضح الظالم، قدوة في جميع المبادئ والقيم الشامخة التي حقّقتها كربلاء وأبطال كربلاء، برجالاتها ونسائها، وشيوخها وأطفالها، فالإمام الحسين عليه السلام  أُسوة وإن استلزم ذلك الموقف قتله وتعرّض عيالاته للخطر والاضطهاد؛ وذلك لأنّ أصحاب هذا الرأي لا يدّعون أنّ الإمام عليه السلام  أراد القتل باختياره بطراً، وإنّما أُجبر على ذلك؛ إذ لا سبيل لإحياء الأُمّة إلّا بهذا الأمر، فالإمام عليه السلام  اضطرّ لذلك؛ كي يحيي دين جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحقّق مقولة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : «حسين منِّي وأنا من حسين»[24]. وأين هذا من كلام الكاتب: بأنّ هذا الرأي لا ينسجم مع كون الإمام عليه السلام  أُسوة وقدوة للآخرين؟!

رأي الطوسي والمرتضى رحمهما الله

استشهد الكاتب بكلام الشيخ الطوسي والسيد المرتضى رحمهما الله على رأيه وبطلان مَن خالفهما، قال: « يقول شيخ الطائفة الطوسي قدس سره  ـ حول مسألة جواز أو عدم جواز أن يكون الإمام عالماً بمقتله فخرج إلى القتال ـ: «ولي في هذه المسألة نظرٌ» وذهب أُستاذه العالم الكبير السيد المرتضـى قدس سره  علم الهدى إلى عدم جوازه؛ لأنّ دفع الضرر عن النفس واجبٌ عقلاً وشرعاً. وعليه؛ إذا كان شيخ الطائفة رحمه الله  متردداً في الحكم بجواز كون الإمام عالماً بمقتله حال خروجه أم لا، وكذلك ما ذهب إليه السيد المرتضى رحمه الله  في الحكم بحرمته؛ فكيف يمكن بلا تحرّزٍ نسبة ذلك إلى الإمام عليه السلام  بأنّه خرج عالماً بمقتله؟! وكيف يصحّ اتّباع فعل تردّد في أصل جوازه بعض العلماء وصرّح بحرمته بعضٌ من دون ترديد؟! وعليه، كيف يمكن لنا ترجيح رأي ماربين الألماني على رأي علماء الشيعة الكبار؟!»[25].

يرد عليه:

 أولاً: إنّ الاستشهاد بمثل كلام الطوسي والمرتضىرحمهما الله، لا يعني خطأ مَن خالفهما في الرأي، فإنّ رأي هذين العلمين يُعتبر أحد الآراء في المسالة ـ كما تقدّمت الإشارة إلى مجموعة من الآراء في بداية هذا المقال ـ ورأيهما ورأي مَن خالفهما يخضع للأدلّة.

ثانياً: قد اتّضح ممَّا تقدّم أنّه لا يصحّ أن يُجعل الرأي القائل بالشهادة على أنّه رأي لمستشرق ألماني، والرأي القائل بالحكومة هو رأي كبار علماء الإمامية.

ثالثاً: هناك نقاش في أصل نسبة هذا الرأي إلى الطوسي والمرتضى رحمهما الله، أعني بهذا التفسير وهذا الاستنتاج، فقد ذكر الشيخ الصافي الگلپايگاني، وكذا السيد مهدي مرتضوي: إنّ جواب العَلمين كان لأحد أبناء العامّة، وقد أُخذ في الجواب مراعاة حال السائل، ومقدار فهمه وعقائده، ثمّ ذكرا مجموعة من الشواهد على هذا المعنى، بعضها مرتبط بكيفية السؤال، وبعضها مرتبط بفقرات الجواب، وبعضها مرتبط بالوضع العام الذي كان يعيشه العَلمان ـ خصوصاً السيد المرتضى ـ وبعضها يرتبط بأُمور تاريخية عامّة[26]. وعليه؛ فلا يحقّ للكاتب الاستشهاد بكلام العَلمين؛ لأنّه فسّـر كلامهما بما لا يمكن أن يقصداه.

وقد علّق الكاتب على الجواب الأخير في الملحق الذي اضافه لكتابه شهيد جاويد الشهيد الخالد في الطبعة التالية من الكتاب ـ في معرض ردّه على كتاب: شهيد اكاه الشهيد العالمـ حيث قال ما مضمونه: إنّ تأويل جواب المرتضى والطوسي بما ذُكر لا شاهد ولا دليل عليه، فهو مجرّد دعوى لا يمكن قبولها[27].

أقول:

أولاً: لو سلّمنا بهذا الردّ، فإنّه لا ينفي ما تقدّم في الردّ الأول والثاني الذي ذكرناهما على مطلب الكاتب.

ثانياً: قد ذكرنا في الردّ الثالث أنّ هناك مجموعة من القرائن على هذا المدّعى، وأنّ المرتضـى والطوسي رحمهما الله كانا في مقام الردّ على سؤال من بعض العامّة.

نعم، هذه الشواهد غير مذكورة في الصفحات التي نقلها الكاتب عن كتاب شهيد آگاه الشهيد العالم، وهي الصفحات 87، 172، 230، وإنّما شواهد مبثوثة في صفحات أُخرى، بالإضافة إلى ما نقلناه عن كتاب جواب او أز كتاب أو، يا پاسخ شبهات شهيد جاويد جوابه من كتابه، أو جواب شبهات الشهيد الخالد الذي قد جمعها في مكانٍ واحد، في أكثر من عشر صفحات.

 

الكاتب: الشيخ رافد التميمي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد التاسع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

____________________________________

[1] تمّ فرز رأيه من كتابه في المقال السابق، في هذا العدد من مجلّة الإصلاح الحسيني، تحت عنوان: هل خطط الإمام الحسين عليه السلام  لإخراج مشهد المظلومية والمأساة في كربلاء؟!

 [2] اُنظر: مهريزي، مهدي، مقال تحت عنوان: تحليلي در باره أهداف قيام إمام حسين، حماسة حسيني، مجموعة مقالات.

[3] اُنظر: ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص18.

[4] اُنظر: الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج1، ص581.

[5] اُنظر: الصافي الگلپایگانی، لطف الله، شهيد آگاه الشهيد العالم: ص80.

[6]اُنظر: الحكيم، محمد سعيد، فاجعة الطف: ص33.

[7] اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، المسائل العكبرية: ص69.

[8] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، تلخيص الشافي: ج4، ص182.

[9] الاشتهاردي، هفت رسالة سبع رسائل: ص193.

[10] اُنظر: المجموعة الكاملة لمؤلفات الأُستاذ الشهيد مطهري: ج17، ص371.

[11] اُنظر: العسكري، مرتضى، معالم المدرستين: ج3، ص308.

[12] اُنظر: الخباز، منير، مقال تحت عنوان: مشروع دراسة الحركة الحسينية، مجلّة الإصلاح الحسيني، السنة الثانية، العدد السادس: ص49.

[13] اُنظر: اللنكراني، محمد جواد فاضل، مقال تحت عنوان: النهضة الحسينية بين نظرية الشهادة وإقامة الحكومة، مجلة الإصلاح الحسيني، السنة الثانية، العدد الثامن: ص39.

[14] المقال السابق: ص

[15] اُنظر: الصافي الگلپايگاني، لطف الله، شهيد آگاه الشهيد العالم: ص170.

[16] الحكيم، محمد سعيد، فاجعة الطف: ص33.

[17] المصدر السابق: ص29.

[18] اُنظر: الصافي الگلپايگاني، لطف الله، شهيد آگاه الشهيد العالم: في مواضع متعدّدة، اُنظر فهرست الكتاب.

[19] مقال سابق: ص

[20] أقول: وهذا يجتمع مع جميع النظريات في أهداف النهضة الحسينية، سواء التي تقول بالشهادة أو الحكومة أو غير ذلك؛ حيث أشارت تلك النظريات إلى أنّ في اليوم العاشر وفي اللحظات الأخيرة لم يبقَ للإمام عليه السلام  سبيل إلّا السلّة أو الذلّة، فقالها الإمام عليه السلام  مدوّية: «هيهات منّا الذلّة».

[21] مقال سابق: ص

[22] مقال سابق: ص

[23] مقال سابق: ص

 [24] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص127.

[25] مقال سابق: ص

[26] اُنظر: الصافي الگلپایگانی، لطف الله، شهيد آگاه الشهيد العالم: ص87، ص172. جواب او أز كتاب أو، يا پاسخ شبهات شهيد جاويد جوابه من كتابه، أو جواب شبهات الشهيد الخالد ص:87 ـ 97.

[27] اُنظر: شهيد جاويد الشهيد الخالد: ص478.

 

 

gate.attachment