الأساليب الإعلامية في خطبة العقيلة في الكوفة والشام

 

الأساليب الإعلامية في خطبة العقيلة(سلام الله عليها) في الكوفة

روى المؤرخون في باب ما جرى من الأُمور المتأخرة عن مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) من سبي العيال، أنّهم قد حملوا السبايا على أبشع هيئة وأفجع صورة: «وحملُ نسائه (صلوات الله عليه) على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء، مكشّفات الوجوه بين الأعداء، وهن ودائع الأنبياء، وساقوهن كما يُساق سبي الترك والروم في أشدّ المصائب والهموم»([13]).

وعندما وصلوا إلى مدينة الكوفة ـ مقر خلافة أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ أوقفوهم بين الناس؛ ليتفرّجوا على ذلّتهم، وكي يُحدِثوا بذلك الرعب في قلوب الكوفيين، وهم ينظرون إلى رأس مَن كاتبوه ورؤوس أهل بيته وأنصاره مرفوعة على الرماح، ولكي يعتبروا بما جرى على آل الرسول(صلى الله عليه وآله) ولا يتمرّدوا بعد هذا على الحكم الأُموي، أو يتجرؤوا على معارضة السلطة الظالمة أبداً؛ لكن هيهات أن تمرّ مخططات الأُمويين وتنجح محاولاتهم والعقيلة زينب(سلام الله عليها) سائرة في هذا الموكب، وهي تقود المرحلة الإعلامية لنهضة الحسين في عاشوراء.

ولقد كانت العقيلة زينب(سلام الله عليها) هي المستفتحة للمرحلة اللاحقة لثورة الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) على الحكم الأُموي، وهي المرحلة الإعلامية، وهي مرحلة حسّاسة وخطيرة لا تقل أهميتها عن أهمية الثورة نفسها؛ لذا كانت العقيلة زينب(سلام الله عليها) دقيقة في خطاباتها، حكيمة في استخدامها لأساليب الإعلام وطرقه المتنوعة.

فقد ورد في كتب التاريخ: «لما أتى علي بن الحسين زين العابدين بالنسوة من كربلاء... وإذا نساء الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب، والرجال معهن يبكون»([14]).

يقول الراوي: «... وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا. فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت: الحمد لله، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار...»([15]).

وفيما يلي أهم الأساليب الإعلامية في خطب السيدة زينب(سلام الله عليها) في الكوفة:

1ـ أُسلوب الاستهلال المميّز والهادف، براعة الاستهلال والبداية المثيرة

إنّ من أهم أساليب الإقناع (المدخل الاتصالي المناسب) الذي يعمل على جذب الانتباه وإثارته، فهو مدخل إلى نفوس الناس، ومفتاح لعقولهم، ومفتاح لأفكارهم([16]). ولقد استخدمت العقيلة(سلام الله عليها) أُسلوباً استهلاليّاً مميّزاً في خُطبتها في الكوفة، يختلف عمّا استهلّت به في كربلاء، فلقد استهلّت خُطبتها هنا بحمد الله والصلاة على أبيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وفي هذا دلالة على موقفها الشامخ وردّة فعلها الصلبة تجاه ما جرى من مآسي ومصائب ومحن، إذ إنّها(سلام الله عليها) بدأت كلامها بحمد الله تعالى؛ لتقطع بذلك الطريق على مَن يتّهم الأقدار، ويحاول التنصل من مسؤولية ما حدث؛ تمسكاً بعقيدة الجبر، لكي يبرِّؤوا أنفسهم من جريمة قتل الإمام الحسين(عليه السلام).

 وفيه إشارة إلى أنّ ما لاقَوهُ إنّما هو ناتج عن ظلم الناس وطغيانهم وتخاذلهم، وقد أكدت هذا المعنى فيما بعدُ في ردّها على ابن زياد عندما سألها: «كيف رأيت صُنع الله بأخيك وأهل بيتك؟»، فأجابته قائلة ـ قول الواثق برحمة ربّه وعدله ولطفه ـ: «ما رأيت إلّا جميلاً»([17])، فلا يصدر من الله تعالى إلّا كلّ ما هو محمود جميل، ولا يصدر عن أهل البيت الأطهار(عليهم السلام) إلّا الحمد والتعظيم لله الواحد القهار.

وفي استهلالها المميّز هذا ـ وهي تقف هذا الموقف الصعب والمرير ـ دلالة واضحة على إيمانها العميق بالله تعالى، ورضاها برضاه سبحانه.

كما أنّ في صلاتها(سلام الله عليها) على النبي الأكرم(سلام الله عليها) بهذه الطريقة «والصلاة على أبي محمد» لدلالة واضحة على أنّهم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ولا ينقصهم وقوفهم هذا شيئاً من كرامتهم، ولا يضـرّ بفضلهم وشرفهم. وفيه إشارة إعلامية إلى أنّهم أساس هذا الدين، وعماد دولة المسلمين، فهم ذرية رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهم أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة.

2ـ أُسلوب التأنيب والمصارحة والمكاشفة

في قولها(سلام الله عليها): «أمّا بعدُ، يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة...»([18])، لقد استفتحت العقيلة زينب(سلام الله عليها) مرحلة مخاطبة الرأي العام، والاتصال المباشر بالناس، وخاطبت الرأي العام الكوفي بأُسلوب المكاشفة والمصارحة؛ نظراً إلى أنّ المرحلة التي يعيش فيها المجتمع الكوفي تتطلب المصارحة بالحقائق، لما لهذا الأُسلوب من أهميّة في هذا الموقف؛ فإنّ المصارحة والمكاشفة وبيان الحقائق، وإن كانت قاسية ومُرّة، فإنّها تتميّز بدور حيوي في تقويم وإصلاح التوجّه العام للناس، لما فيها من حثّ الناس، وتوجيه الرأي العام إلى مواجهة الحقائق، وإصلاح الواقع؛ وذلك أنّ «الرأي العام الإسلامي الذي يؤسسه الاتصال الفعال على أساس من المصارحة بالحقائق، تأتي مواقفه ثابتة، ويكون تأييده لقيادته قوياً، وثقته بها متينة»([19]).

لذا؛ فقد استعملت العقيلة زينب(سلام الله عليها) أُسلوب المكاشفة ومخاطبة جمهور المتلقين بحسب حاجاتهم المعنوية، وسعت إلى تشخيص حالاتهم النفسية، فشرعت في خطاب تقريعي، واستخدمت أُسلوب التوبيخ الشديد الذي يتناسب وحجم الفاجعة وكبر الرزية، فموقف أهل الكوفة، وغدرهم بإمامهم، وتخاذلهم عن نصرة الحق لا يتناسب معه إلّا هذا الأُسلوب الإعلامي التقريعي القاسي والصريح.

وقد أثبتت الدراسات العلمية في ميادين الاتصال الإعلامي، أن أُسلوب عرض الحقائق يُعتبر من أهم الأساليب الفعّالة في تغيير الرأي العام([20]).

فلقد استعملت العقيلة زينب(سلام الله عليها) هذا الأُسلوب مع أهل الكوفة، فصارحتهم بحقيقتهم، على مرارتها، واستهلّت خطابها ببيان حقيقتهم وجوهر شخصيتهم؛ كي يعرفوا حقيقة أنفسهم ويكفّوا عن الادعاء بما ليس فيهم، فليس فيهم إلّا (المكر والغدر)، فالمكر منهم وإليهم، ولم يكن عارض عليهم، والغدر مقترن بهم، فليس هو طارئاً جديداً يطرأ عليهم، بل هو صفة معروفة فيهم ومقترنة بهم.

3ـ أُسلوب تقريب الحقائق المعنوية من خلال ضرب الأمثال

 ثمّ أخذت(سلام الله عليها) تُبيّن لهم حقيقتهم من خلال أُسلوب التشبيه وضرب الأمثال، وهو أُسلوب قرآني في واقعه، وهو من الأساليب المهمّة في الإعلام؛ إذ إنّه يقرّب المعاني ويوصلها إلى أذهان المتلقين من خلال استحضار صور حسّية، قالت(سلام الله عليها): «إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»([21])، وهذا مثل قرآني معروف، قد ضربه الله في القوم الذين ينقضون العهد ويغدرون،  مستغلين بذلك الدين وأيمانهم، وفي استخدام العقيلة(سلام الله عليها) لهذا المثل في هذا الموقف عدّة دلالات ومعانٍ وأساليب إعلامية هامّة أبرزها:

1ـ استخدام العقيلة أُسلوب التشبيه من خلال استحضار أحد الأمثال القرآنية، لا سيما أنّه كان مثلاً بليغاً ومؤثراً؛ إذ إنّه يتناسب والموقف الإعلامي الذي تقف فيه العقيلة(سلام الله عليها)، فهي(سلام الله عليها) كانت بصدد تبيين الأسباب الحقيقية، والعلل الجوهرية لحدوث هذه الفاجعة الأليمة.

2ـ أرادت العقيلة زينب(سلام الله عليها) من خلال استخدام هذا المثل بيان السبب المحوري، والنقطة الجوهرية في إخفاق أهل الكوفة المتكرر مع أئمّة الحق، وعدم موفقيتهم في نيل السعادة بنصـرتهم، فديدن أهل الكوفة هو التناقض والتراجع عن إنجازاتهم دائماً، فشبهتهم(سلام الله عليها) بتلك المرأة التي كانت تُلقّب بـ(خرقاء مكة)، والتي كان دأبها أن تنقض ما تنتجه بيديها بعد طول عناء([22]). وهذا كان حالهم مع أمير المؤمنين(عليه السلام) وولده الإمام الحسن(عليه السلام) من بعده، ومن ثمّ هذه النهاية المفجعة والعاقبة السيئة التي تجسّدت بغدرهم بإمامهم وملاذهم الإمام الحسين(عليه السلام)، وتقاعسهم عن نصرته بعد أن أغلظوا له الأيمان، وقدّموا له المواثيق، وواتروا إليه الرسائل والكتب.

4ـ أُسلوب الاستشهاد بالآيات والمفاهيم القرآنية

يظهر في هذا المقطع من خطاب العقيلة زينب(سلام الله عليها) استخدامها لأُسلوب الاستشهاد بآيات القرآن الكريم؛ لأجل تأكيد الحقائق، وترسيخ المفاهيم في نفوس المتلقين وعقولهم، وفي هذا الأُسلوب إشارة إعلاميّة يُختزل فيها أمر هام، أَلا وهو التأكيد على أنّهم مصداق لـمَن ذمّتهم الآية الكريمة:  (...  تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ... )([23])، وقد جاء في تفسير العلّامة الطباطبائي لهذه الآية: «أي: تتخذون أيمانكم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة، تطيّبون بها نفوس الناس، ثمّ تخونون وتخدعونهم بنقضها...»([24]).

كما يظهر من أُسلوب الاستدلال هذا إشارة إلى معنى إعلامي هام آخر، وهو: أنّ العقيلة زينب(سلام الله عليها) ـ باستخدام هذا الاستشهاد، وهذا المثل الراقي، والتشبيه البليغ ـ  قد أحدثت وصلاً وترابطاً بين الناس في عصرها وعصر نزول الوحي، ووزنت أهل الكوفة بميزان القرآن، وكلّمتهم بمنطقه؛ لكي تشخّص لهم أمراضهم النفسية، وتبيّن لهم نقاط ضعفهم فيما بعد.

5 ـ أُسلوب التشبيه

ثمّ عطفت(سلام الله عليها) إلى استخدام أُسلوب الوصف والتشبيه؛ لغرض بيان هذه العلل والأمراض النفسية قائلة: «أَلا وهل فيكم إلّا الصلف والشنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، وهل أنتم إلّا كمرعى على دمنة، وكقصة على ملحودة، أَلا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون»([25]).

لقد استعملت العقيلة زينب(سلام الله عليها) هنا أُسلوب التوبيخ والتقريع الشديد، من خلال ذكر أبرز صفة لأهل الكوفة، باستخدام أداة الحصـر (إلّا)، و«الصَّلَف أيضاً: التَّمَدُّح بما ليس عندك»([26])، و«الشَّنَف بالتحريك: البغض والتنكّر»([27])، بمعنى عدم تحكيم العقل والضمير، والاستناد إلى الأهواء في اتخاذ المواقف وإصدار الأحكام، «وملق الإماء، وغمز الأعداء»، أي: تتملّقون كما تتملّق المملوكة لسيّدها، وليس لكم كرامة واعتداد بالنفس، إذا أصبحتم في قبال عدوكم، وغاية مجهودكم أن تطعنوا به، وتعيبوا عليه بخفية، بأُسلوب الذليل الجبان كما يفعل العبيد، وتتملّقون له أمامه كما تتملّق الإماء. وقد كان التشبيه هنا عبر أُسلوب البدل.

 ثمّ استخدمت(سلام الله عليها) فيما يلي من خُطبتها أُسلوب التشبيه من خلال الأداة (الكاف) قائلة: «... وهل أنتم إلّا كمرعى على دمنة، وكقصة على ملحودة...»، وهو أُسلوب بلاغي عميق، عمدت العقيلة(سلام الله عليها) من خلاله إلى تحقيرهم، وتسفيه عملهم، واستصغار جهدهم، فإنّ أعمالهم لا تمثل في الحقيقة إلّا المظاهر، وليس لها في الباطن إلّا الخواء، فهي كالنبات الأخضر وسط المزابل القذرة ، فالدمنة: هي المزبلة، وهي كالبناء المزخرف فوق القبور، فالملحودة: هي القبر، الذي لا يضم في داخله إلّا الرفات والجيف، وإن حسُن ظاهره من الخارج([28]).

6ـ أُسلوب تضمين المحتوى القوي في قالب بلاغي أنيق

 وقد تقدّمت لهم العقيلة زينب(سلام الله عليها) في هذه الخُطبة بالوعيد والإنذار من الانتقام الإلهي، لتؤكّد على عظم الرزية، وكبر المصاب، وشدّة غضب الله، بأُسلوب بلاغي أنيق، وذلك في قولها(سلام الله عليها): «أَلا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم وفي العذاب أنتم خالدون... أَلا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم، وساء ما تزرون ليوم بعثكم، فتعساً تعساً، ونكساً نكساً، لقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسـرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة»([29]).

 ويظهر هنا أُسلوب الاستشهاد بمضامين القرآن عبر الاستناد إلى الألفاظ القرآنية، وهو أُسلوب مفاده المبالغة في التوعّد والتخويف.

 كما يظهر أُسلوب المكاشفة وتقديم الحقائق في قولها(سلام الله عليها) «لقد خاب السعي... وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة» ـ في إشارة إلى العذاب الدنيوي الذي ينتظرهم ـ فضلاً عمّا ينتظرهم من عذاب يوم القيامة.

7ـ أُسلوب الاستفهام الحواري

 بعدما أنذرت العقيلة(سلام الله عليها) أهل الكوفة من حتميّة قدوم العذاب الإلهي، شرعت بإجراء حوار إعلامي قدّمت فيه استفهام تعجب قائلة: «أتدرون ويلكم أيّ كبدٍ لمحمد(صلى الله عليه وآله) فرثتم؟! وأيّ عهدٍ نكثتم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟! وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟! وأيّ دمٍ له سفكتم؟!»([30]).

فلقد كشفت العقيلة(سلام الله عليها) في هذه الكلمات البليغة والمعبرة لأهل الكوفة، أنّهم بفعلتهم هذه، إنّما مزّقوا كبد نبيّهم الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله)، وأنّهم بنكثهم لعهد الإمام الحسين(عليه السلام)، إنّما نكثوا عهدهم مع النبي(صلى الله عليه وآله)، وأنّهم قد انتهكوا حُرمات رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وسفكوا دمه (صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته الأطهار).

 إنّ السؤال والاستفهام خير أُسلوب للشرح والتبيين؛ إذ إنّه يخلق فراغاً في نفسيّة المتلقي، ويوجد لديه حافزاً نفسيّاً يحثّه على التلقي بشوق ورغبة.

وهذا الأُسلوب الحواري له تأثيره في العملية الإعلامية؛ لما يحدث من القرب النفسـي بين القائم بالاتصال والمتلقي... هذا إضافة إلى أنّ التساؤل يكشف عن جوانب النقص في المعرفة لدى الجمهور([31]).

8ـ أُسلوب التأكيد والتكرار

«أثبتت الدراسات العلمية في مجال الإعلام قوة وفاعلية أُسلوب التكرار والملاحقة، وتأثيره الفعّال في إقناع المتلقي بالرسالة الإعلامية»([32])، ويأتي هذا الأُسلوب لغرض الإمعان في توضيح الحقائق، وضمان تلقي المخاطبين.

لقد أمعنت العقيلة زينب(سلام الله عليها) في هذا المقطع من الخُطبة في المكاشفة وتوضيح الحقائق، ثمّ تأجيج مشاعر الندم في نفوس المتلقّين، لما اقترفوه من جناية كبيرة؛ إذ استخدمت العقيلة هنا عدّة أساليب إعلامية وبلاغية، وهي:

1ـ الاستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة، وذلك حينما استشهدت بقوله تعالى: (لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)([33])، ويظهر هنا أُسلوب الاستشهاد بآيات القرآن مرّة أُخرى، وكأنّها(سلام الله عليها) تُشير إلى أنّ أهل الكوفة يمثّلون مصداقاً لهذه الآية بقتلهم ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنهم استحقوا غضب الله كما استحقه أُولئك الذين دعوا للرحمن ولداً.

وهذا أُسلوب إعلامي بليغ يتمثّل بالاستشهاد بالمسلمات، وهو دأب النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام) في الخطاب الإعلامي مع الأُمّة.

 2 ـ ثمّ تعود(سلام الله عليها) لاستخدام أُسلوب التشبيه عبر التشبيه بالبدل تارةً، وذلك في قولها(سلام الله عليها): «لقد جئتم بها شوهاء، صلعاء، عنقاء، سوداء، فقماء، خرقاء»([34])، أي: إنّ فعلتكم التي فعلتموها كانت قبيحة بما فيه الكفاية، لتشمئز منها كلّ الأذواق، وتنفر كلّ النفوس، وتارةً أُخرى بأُسلوب التشبيه بواسطة الأداة، وذلك في قولها(سلام الله عليها): «كطلاع الأرض أو ملء السماء»([35])، أي: إنّ فعلتكم القبيحة هذه معروفة في الأرض، فقد مُلئت الأرض وفاضت عنها، وقد ملأت أصداء فاجعة ما اقترفوه كلّ السماوات على وسعها وكبرها؛ وفي هذا القول قدّمت العقيلة زينب(سلام الله عليها) كناية عن أن قبح عملهم، وسوء فعلهم، أجلى من أن يخفى، أو أن يُنسى مع الزمن.

قد تركت هذه الخُطبة البليغة أثرها الخالد في نفوس وضمائر الأُمّة، وتركت الناس حيارى يعذبهم الندم، ويغشاهم الاضطراب، قد ردوا أيديهم في أفواههم لا يدرون ما يقولون.

9 ـ أُسلوب مراعاة الحاجات المعنوية لجمهور المتلقين

 وهذا الأُسلوب يظهر في مخاطبتها(سلام الله عليها) المتلقين على قدرهم ومكانتهم، وهو ما يُعرف بـ(الأساليب الإقناعية المرتبطة بالظروف والبيئة المتغيرّة)([36])، ومعرفتها بأحوالهم وما يتناسب معهم من خطاب، من خلال تغيير هيئة كلامها عمّا كان في كربلاء تماماً، وهذا أُسلوب حيوي ومهم جداً في إيصال الرسالة الإعلامية للمتلقّين؛ إذ لا بدّ أن يتمتع الإعلامي بسرعة بديهة وسيطرة تامّة على مجريات الأُمور، ومعرفة كاملة بطبيعة مخاطبيه؛ لأجل السعي إلى تلبية حاجات الجمهور المتلقي المادّية والمعنوية، وهو من أهم الأساليب الإعلامية لتحقيق الهدف الرئيس للعملية الاتصالية([37]).

 

الأساليب الإعلامية في خُطبة العقيلة زينب(سلام الله عليها) في الشام

 

لقد خطبت العقيلة زينب(سلام الله عليها) خُطبتها المشهورة في الشام، وذلك بعدما أُخِذت أسيرة مع الأيتام والأرامل، والإمام السجاد(عليه السلام) عليل مريض، وقد كُبِّلوا جميعاً بالقيود.

يذكر ابن طيفور: «لما كان من أمر أبي عبد الله الحسين بن علي(عليهما السلام) الذي كان، وانصـرف عمر بن سعد (لعنه الله) بالنسوة والبقية من آل محمد(صلى الله عليه وآله)، ووجههن إلى ابن زياد (لعنه الله)، فوجههن هذا إلى يزيد (لعنه الله وغضب عليه)، فلمّا مثلوا بين يديه، أمر برأس الحسين(عليه السلام) فأُبرِز في طست، فجعل ينكث ثناياه بقضيب في يده، وهو يقول:

يا غراب البين أسمعت فقل                 إنّما تذكر شيئاً قد فُعل

ليت أشياخي ببدر شهدوا                   جزع الخزرج من وقع الأسل

 [إلى قول الشاعر]:

          لست للشيخين إن لم أثأر                      من بني أحمد ما كان فعل»([38]). 

وهي أبيات تنضح كفراً ونفاقاً، وينقل ابن كثير قول مجاهد: «نافق فيها، ثمّ والله، ما بقي في جيشه أحد إلّا تركه، أي: ذمّه وعابه»([39])، وكأنّ يزيد كان قد اطمأن إلى أنّ الإسلام قد انتهى، وأنّ الأُمور أصبحت له متّسقة؛ لكي يتجرأ ويقرأ هذه الأبيات على أسماع الملأ، وهو ينكت بالقضيب ثنايا أبي عبد الله الحسين(عليه السلام).

 لكن شجاعة العقيلة زينب(سلام الله عليها) وغيرتها على الدين، وتفانيها في الدفاع عن مبادئه، كانت له بالمرصاد، فوقفت تلك الوقفة المشهودة؛ لتُطلق تلك الكلمات الخالدة التي أعادت الأُمور إلى نصابها، وأزاحت عن الحقيقة حجابها، منتفضة للدين، وهي تخاطب يزيد قائلة: «الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه كذلك يقول: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّـهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)،أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعِظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسـروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ )...»([40]).

1ـ أُسلوب المبادرة إلى التصريح بالرسالة وانتخاب الوقت المناسب

 لم تكن العقيلة المحمدية لتنهار أمام المصائب وإن عظمت، ولا تضعف أمام المحن وإن جلّت، ولم تكن العقيلة زينب(سلام الله عليها) لتتأمل وتراجع نفسها، كي تفكر في كيفية مواجهة هذا الموقف المرير الذي تراه أمام عينها، وهذا الكلام الذي تسمعه تنبعث منه رائحة الكفر، وتعلو فيه نبرة الإلحاد، فبادرت مسـرعة لتنقضّ على أُسّ الكفر، وتهدّه من جذوره، وتنسفه من قواعده، وكيف لا وهي بنت يعسوب الدين، وحفيدة سيد المرسلين(سلام الله عليها)، مَن أُمّها سيدة نساء العالمين(سلام الله عليها)، وإخوتها الحسن والحسين(عليهما السلام).

فوقفت متسلّحة بسلاح الإيمان، متجلببة بجلباب الصبر والتوكل على الله المتعال؛ لتواجه رأس الطغيان في عقر داره، غير عابئة بسلطانه، ولا آبهة لسطوته وطغيانه، فشرعت في فضيحته، وأماطت لثام النفاق عن وجوه الأُمويين، وفضحت وجه الكفر الحقيقي الذي كان يختلج في صدورهم.

فهذا يزيد سليل أبي سفيان، وحفيد آكلة الأكباد، وابن الطلقاء، حفظ لمحمد ابن عبد الله(صلى الله عليه وآله) جميله ـ عندما أطلقهم، وخلّى سبيلهم، وقال لهم: «أنتم الطلقاء» ـ بقتله لذريته، وانتهاك حرمته، وسبيه لنسائه، فأصابت العقيلة بكلامها كبد الحقيقة، وأشارت إلى عين الواقع، وفضحت ما يكنّه هؤلاء لأهل البيت(عليهم السلام) من مشاعر حقد وضغينة، فأعلنت من خلال خطبتها الغرّاء تلك أنّ هذه الجرائم ليست إلّا «...نتيجة خلال الكفر، وصب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطئ في بغضنا أهل البيت مَن كان ينظر إلينا شنفاً وشنآناً وإحناً وأضغاناً، يظهر كفره برسول الله، ويفصح ذلك  بلسانه، وهو يقول ـ فرحاً بقتل ولده وسبي ذريته، غير متحوّب ولا مستعظم: لأهلّوا واستهلّوا فرحاً...»([41]).

 

2ـ أُسلوب البلاغة وقوة المحتوى والمضمون

وهو أُسلوب إعلامي ناجح ومؤثر، ثبتت فعاليته في الدراسات الإعلامية، فهي«تؤكّد فاعلية الرسالة متى توفر فيها المضمون القوي والناجح، أي: المعاني والأفكار الراقية والسامية، إلى جانب الصياغة الجميلة، أي: اختيار الرموز ذات الدلالات الفعّالة في الإقناع، والتي لها دلالة مشتركة ومعروفة بين القائم بالاتصال والمتلقي»([42]). وإنّ في بلاغة العقيلة زينب(سلام الله عليها) وأُسلوب طرحها لخُطبتها دلالة واضحة على تفوق إعلامي يبهر العقول، فقد جمعت(سلام الله عليها) في خطبتها كلّ طرق وفنون البلاغة إلى جانب قوة المحتوى والمضمون.

 فقد كانت تبيّن مصاديق القرآن من خلال استشهادها بآياته الحكيمة في مواقع مميّزة، كما في استهلالها المثير بالآية العاشرة من سورة الروم، حينما خاطبت يزيد قائلة: «فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأُمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ )»([43]).

وفي توعدها ليزيد بقولها: «فو الله، ما فريت إلّا جلدك، ولا حززت إلّا لحمك، ولتردن على رسول الله(صلى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحُمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )، وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد(صلى الله عليه وآله)  خصيماً، وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّل لك ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيّكم شرّ مكاناً، وأضعف جنداً»([44]).

 في إشارة واضحة للناس، ودلالة بيّنة للمتلقين، على أنّ هذا الذي يجلس على كرسي الخلافة ويتسلّط على الناس باسم الدين، ما هو إلّا كافر بهذا الدين، وإن هو إلّا مصداقاً للذين أساؤوا ولا عاقبة لهم إلّا السوأى؛ مستدلّة بإعلانه الكفر على الملأ، واستهزائه بآيات الله سبحانه، عندما تمثّل بتلك الأبيات من الشعر، وأنّ الإمام الحسين(عليه السلام) وأنصاره مصداق للذين قُتلوا في سبيل الله في الآية الكريمة: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )([45]).

 

3ـ أُسلوب المواجهة العلنية وعدم الرهبة من الموقف

لقد كانت العقيلة زينب(سلام الله عليها) صريحة برسالتها، وضعت أيدي المتلقين للرسالة الإعلامية على جوهر المسألة بصورة مباشرة، فجاء أوّل خطابها بشكل هجمات متلاحقة لا هوادة فيها، متضمّناً الاستخفاف بسلطان يزيد الكافر، والاستهزاء بجبروته، والتذكير بعظمة الله، ثمّ ذكّرت يزيد بذنبه العظيم، ووصفته بـ (ابن الطلقاء)، قائلة له: «أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن وليّ، ولا من حماتهن حميّ، وكيف يرتجى مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟ وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟ ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم:

 

وأهلّوا واستهلّوا فرحاً                         ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشل

 

 

منتحياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصـرتك، وكيف لا تقول ذلك؟! وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد(سلام الله عليها)، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك، زعمت أنّك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودّن أنّك شُللت وبُكمت، ولم يكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت»([46]).

4 ـ أُسلوب التوكّل على الله والالتجاء إليه سبحانه

 واصلت العقيلة زينب(سلام الله عليها) كلامها ـ في بيان سوء فعال يزيد بأهل البيت الأطهار(عليهم السلام) ـ بالتوجّه إلى الله، والتضرّع إليه بالدعاء طالبة النصر منه، وهي تقول: «الّلهم خذ بحقّنا، وانتقم ممّن ظلمنا، وأحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا»([47]).

وفي هذا المقطع دلالة واضحة على أنّ الإعلامي المسلم عليه أن يكون متوجّهاً إلى الله ومتضرّعاً إليه، غير مستقل عن لطفه ورأفته، ولا مستغنياً عن عطفه وتسديده في حال من الأحوال.

 والنكتة المهمّة في الأمر استخدامها(سلام الله عليها) أُسلوب الدعاء ـ وهو سلاح المؤمن والرابط الأقوى بين العبد وربّه ـ مذكرةً بقوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)([48])، للتمهيد لما يأتي من وعيد ليزيد بأنّ الله منتقم لآل بيت رسوله لا محال.

وفي كلامها(سلام الله عليها) نلمس الجرأة الفريدة والشجاعة الفائقة؛ إذ إنّ في الدعاء على الظالم في عقر داره تحدّياً كبيراً، وإعلان حرب حقيقية، كما ويدلّ كلامها هذا على حسن توكلها على الله، وجميل يقينها به؛ إذ بدت واثقة من استجابة الله دعائها، فخاطبت يزيد بلسان الواثق من النصر قائلة: «فو الله، ما فريت إلّا جلدك، ولا جززت إلّا لحمك، ولتردن على رسول الله(صلى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحُمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )، حسبك بالله حاكماً، وبمحمد خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّى لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيـُّكم شرّ مكاناً وأضعف جُنداً»([49]).

5 ـ الثقة العالية بالنفس

إنّ ثقة الإعلامي بمصدر رسالته الإعلامية من المسائل الجوهرية والحساسة في العملية الإعلامية؛ ذلك لأنّ المصدر هو ركن من أركان الإعلام الأساسية، خصوصاً إذا كانت الرسالة هي رسالة مواجهة وتحدٍّ كما في رسالة العقيلة زينب(سلام الله عليها) في مجلس يزيد.

فبعد أن أنذرت يزيد من سوء المصير الذي ينتظره، شرعت في تحقيره مبيّنة نبل أصلها وجلالة قدرها، وأنّها(سلام الله عليها) غير مسرورة بمخاطبته، بل وحتى بتقريعه! لأنّ يزيد في مقابل آل رسول الله ليس إلّا رجلاً حقير الشأن، ضئيل القدر، لا يساوي حتى كلمات التوبيخ والتقريع، وكفى بهذا ثقة بالنفس وبالرسالة، وكفى به استصغاراً وتحقيراً للمخاطب (يزيد). وللقارئ الكريم أن يتأمل في هذه الكلمات ويُمعن النظر: «ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لاستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى»([50]). فعلى الرغم من أنّها كلمات معدودة إلّا أنّها تحمل معاني كبيرة ودلالات كثيرة تكفي لأن تترك يزيد صريعاً مهيناً، وفي الخصام لا يكاد يبين.

6ـ أُسلوب حُسن الختام

ختمت العقيلة زينب(سلام الله عليها) كلامها وخطابها في مجلس يزيد بخاتمة، لخّصت فيها حقيقة ما جرى من وقائع، واستعملت كلمات روعة في البلاغة، صوّرت فيها حقيقة وطبيعة العلاقة بين آل الرسول(سلام الله عليها) وآل أُميّة، قائلة: «أَلا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوها أُمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلّا ما قدَّمت، وما ربّك بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل. فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي: أَلا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكمل لهم الثواب، ويُوجب لهم المزيد، ويُحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل»([51]).

قد ختمت العقيلة زينب(سلام الله عليها) خطابها ليزيد بفتح باب التحدي أمامه على مصراعيه، فقد بلغت هذه القصة العتيدة بين حزب الله وحزب الشيطان بهذه الجريمة ذروتها، وبدأت الدولة الأُموية بعد هذه الجناية تعدُّ أيامها.

ولقد أنهت العقيلة زينب(سلام الله عليها) خطبتها بحمد الله كما بدأت به، وأثنت عليه سبحانه، سائلة الله تعالى أن يُحسن لهم العزاء، ويتمّ عليهم النعمة والعطاء، ويُحسن خلافتهم، ويُظهر حقَّهم.

أمّا يزيد، فقد أُلقم حجراً بعد خُطبة العقيلة زينب بنت الزهراء عليهما السلام،  فبهُت وذُهل، ولم يتحرَّ جواباً، واكتفى بتعليق الخائف اللائذ من الفضيحة، حيث قال بعد سماعه لخطبة العقيلة:

 

«يا صيحة تحمد من صوائح               ما أهون الموت على النوائح» ([52]) .

 

ويذكر المؤرخون أنّ كلّ ذلك الفرح والابتهاج الذي أبداه يزيد لمقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، وسبي نسائه، قد تبدّل إلى ندم. قال ابن الأثير: «وقيل: ولمّا وصل رأس الحسين إلى يزيد، حسنت حال ابن زياد عنده، وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثمّ لم يلبث إلّا يسيراً حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما عليَّ لو احتملت الأذى، وأنزلت الحسين معي في داري، وحكّمته فيما يريد... حفظاً لرسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، ورعاية لحقّه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة...»([53]).

 وقد ندب الأُمويون الإمام الحسين(عليه السلام)؛ إذ ورد في التاريخ أنّ يحيى بن الحكم  ـ أخا مروان بن الحكم ـ كان في محضر يزيد تلك الأثناء، فقال:

 

«لهامٍ بجنب الطفّ أدنى قرابة            من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

سمية أمسى نسلها عدد الحصى                       وليس لآل المصطفى اليوم من نسل»([54]).

وليس هذا الندم إلّا بفعل نجاح العقيلة زينب وآل البيت(عليهم السلام) في إيصال رسالة عاشوراء الإعلامية إلى الأُمّة الإسلامية، وتخليدها في وجدان المسلمين؛ إذ حوّلوا فرح الأُمويين إلى ترحاً، وبدّلوا سرورهم ذاك إلى عزاء وندم.

يذكر الطبري في تاريخه ـ  بعد أن ذكر ما دار من حوار جادلت فيه العقيلة زينب(سلام الله عليها) يزيد، عندما طلب الشامي منه فاطمة، وإفحامها إيّاه بكلامها ـ: «فلم تبقَ من آل معاوية امرأة إلّا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين، فأقاموا عليه المناحة ثلاثاً»([55]).

وقد أصابت الحقيقة الدكتورة بنت الشاطئ عندما قالت: «لم تمضِ زينب إلّا بعد أن أفسدت على ابن زياد وبني أُميّة لذّة النصر، وسكبت قطرات من السُّم الزعاف في كؤوس الظافرين، فكانت فرحة لم تطُل، وكان نصراً مؤقتاً لم يلبث أن أفضـى إلى هزيمة قضت في آخر الأمر على دولة بني أُمية»([56]). وبالفعل فإنّ ما فعلته العقيلة زينب(سلام الله عليها) في الشام بتحكّمها بمشاعر وضمائر المتلقين ـ بفعل خطبها وكلماتها التي ألقتها في مجلس يزيد ـ يمثّل إنجازاً لا يقلّ أهمية عن الشهادة والتضحية والفداء في سوح القتال.

 

الكاتبة: نُهى القطراني

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثالث عشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

_____________________________________________

([13]) المصدر السابق: ص84.

([14]) الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص29.

([15]) ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص86.

([16]) اُنظر: ثابت، سعيد، الجوانب الإعلامية: ص140.

([17]) ابن أعثم، أحمد، الفتوح: ج5، ص122.

([18]) ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص86 ـ 87.

([19]) ثابت، سعيد، الجوانب الإعلامية: ص36.

([20]) اُنظر: حجاب، محمد منير، مبادئ الإعلام الإسلامي: ص71.

([21]) ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص87.

([22]) اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج12، ص335.

([23]) النحل: آية92.

([24]) الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج12، ص335.

([25])        ابن طيفور، أحمد بن أبي طاهر، بلاغات النساء: ص24.

([26]) الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج12، ص327.

([27]) ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج9، ص183.

([28]) اُنظر: الزبيدي، مرتضى، تاج العروس: ج9، ص339.

([29]) الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص30.

([30]) المصدر السابق.

([31]) اُنظر: الحجازي، عبد الحميد، الرأي العام والحرب النفسية: ج1، ص212.

([32]) ثابت، سعيد، الجوانب الإعلامية: ص111.

([33]) مريم: آية89 ـ90.

([34]) الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص30.

([35]) المصدر السابق.

([36]) اُنظر: ثابت، سعيد، الجوانب الإعلامية: ص111.

([37]) اُنظر: عبد الباقي، زيدان، علم النفس في المجالات الإعلامية: ص435 ـ 436.

([38]) ابن طيفور، أحمد بن أبي طاهر، بلاغات النساء: ص20ـ 21. وتُروى الأبيات في مصادر متعددة مع اختلاف يسير، علماً بأننا حذفنا بعض الأبيات مراعاةً للاختصار.

([39]) ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص209.

([40]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص133.

([41]) الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص36.

([42]) ثابت، سعيد، الجوانب الإعلامية: ص210.

([43]) ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص105 ـ 106.

([44]) المصدر السابق: ص107.

([45]) آل عمران: آية169.

([46]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص134.

([47]) المصدر السابق.

([48]) الفرقان: آية77.

([49]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص134.

([50]) المصدر السابق.

([51]) المصدر السابق: ص134ـ 135.

([52]) الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص37.

([53]) ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص87.

([54]) الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص352.

([55]) المصدر السابق: ص353.

([56]) بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب بطلة كربلاء: ص158.

gate.attachment