في النقد والنقد التشكيلي

النقد هو عملية أدبية تعنى بنصوص إبداعية ذات نشاط فكري يقوم به الناقد بهدف إيضاح معنى أو تقويم اعوجاج أو تعيين مواطن الجمال أو القُبح وإصدار حكم قيمي ، فهو نوع من التثمين والتقييم الشامل للمنتج المعرفي وتحديد موقف جلي منه وهو أيضا قراءة تقوم على التفكيك والبناء لأجزاء وعناصر العمل الفني وما هو إلا صياغة متجددة للإبداع ، وقد استعملت هذه المفردة في العصر الهيليني ثم عند الرومانيين بعد ذلك ، وانتشر استخدام هذه المفردة بعد ذلك في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث شاع استعمالها في مجالات أوسع من ذي قبل، وبتطور الصحافة بدأ النقد يشغل حيزا كبيرا من خلال استعماله اليومي بما لفت النظر إلى تعبير (النقد الفني) مستقبلا على يد الكتاب الألمان والفرنسيين والإنكليز ، حتى أصبح يمثل عملية الحصول على معلومات وإصدار أحكام تفيد اتخاذ القرارات من خلال تفحص العمل الفني لتحديد مواطن الضعف والقوة في ذلك العمل وفقا لمعايير مقترحة يمكن الأخذ بها في تطبيق الأحكام على العمل الفني بوصفه جيدا أو رديئا ، وذلك كون العمل الفني يبعث آثارا أو عاطفة معينة في المتلقي (ناقداً كان أو متذوقاً) الذي تصدى لذلك العمل الفني ولمس فيه مواطن من شأنها أن تجعلهُ جميلاً أو قبيحاً ،فالنقد التشكيلي يعتبر أحد أنواع النقد المتفرعة من نقد الفنون إجمالاً باعتبار أن التشكيل هو جزء أصيل من الفنون البصرية والتي من ضمنها السينما والمسرح ، فالنقد التشكيلي يعد من أهم المحفزات الدافعة لازدهار الفنون التشكيلية وتطورها وإنجاح مقاصدها في شتى أشكالها من رسم ونحت وفخار وزخرفة وغيرها ، فهو يحلل ويفسر الأعمال الفنية للرقي بالذوق العام في المجتمع . وتتأكد أهميته بصفته عنصراً فاعلاً في الحركة التشكيلية بشكل خاص والحركة الثقافية والفكرية بشكل عام من خلال الوظائف والأدوار التي يقوم بها في الحياة المعاصرة ، فقد أصبح النقد التشكيلي اليوم يشكل رافداً مهماً في تفسير وتقييم الإبداعات الفنية فهو قرين لها ولا يمكن لأحدهما أن ينمو ويزدهر بمنأىً عن قرينه ، فكل نتاج إبداعي من وجهة نظر النقد إنما هو دعوة للتحقيق والمسائلة ، فالنقد هو ضرورة للإبداع الفني يسترشد به المبدع حين تكون الحاجة ولا يكون النقد فاعلاً بعيداً عن منجز فني رصين يستحق النقد وهذا ما يستدعي وجود مبدعين يثيرون حفيظة النقد والنقاد ، فالفن إبداع أولي يحتاج إلى إبداع ثانٍ يفسره أو يقومه أو يطوره ويستشرف فيه رؤى سيرورته عن المستقبل ، فالنقد التشكيلي المعاصر يعتمد أساساً على التحليل المنهجي للأعمال الفنية ولا يجنح سواءً إلى المدح أو التقريظ أو الذم أو الهجاء كما كان بصورته الكلاسيكية ، بل أصبح يضع هذه الإبداعات تحت ضوء هادئ وفاحص بعيداً عن الحماسة أو التعصب أو التحيز ، فلم يعد النقد التشكيلي هو تلك الآلية اللازمة للارتقاء بالعمل الفني المبدع إلى مستوى أعلى من حيث المضمون أو الجماليات أو المفردات الأساسية المكونة له بل امتد ليصبح حالة إبداعية بحد ذاته باحثاً عن الصمت والكشف عن المسكوت عنه واستنطاق النص الإبداعي ليُبيحَ بمكنوناته ، وهو بهذا المفهوم المعاصر قد أصبح يرى أن العمل الفني التشكيلي  لا يحاكي الطبيعة ويقلدها بل أصبح يشكل بناءً عضوياً قائماً بذاته يحمل في مكنوناته قيمته الحقيقية التي تنبع من الأحاسيس الجمالية التي يثيرها في داخل المتلقي فالمشاهدة في حد ذاتها تجربة جمالية تعيد تشكيل أحاسيس المتلقي وتنسقها ، تجاه العمل الإبداعي مما يمنحه إشباعاً نفسياً لا يتاح له في الحياة اليومية ، فالعمل الفني يتبنى مهمة إثارة نفس المتلقي في استجابة ذاتية تعد أساسا للحكم على الفنون ويصبح هذا الحكم وسيطاً للتواصل بين العمل الفني والمتلقي فالنقد هو طبيعة في البشر فهو يعتبر واحداً من سلوكياتهم حين يعجبون بشيء أو يستهجنون شيء آخر ، وما الإعجاب أو الاستهجان إلا صورة من صور النقد ، فالنقد نشأ مع بداية إدراك الإنسان للجمال أو قبح ما حوله من طبيعة أو سلوك الآخرين فهو حوار فاعل بين النص والقارئ يضفي على النص معنى يشترك فيه الطرفان ولا معنى للنص بمعزل عن قارئ نشيط يستحثه ويقلب فيه الظن بعد الظن ، ففي لحظة التأمل الفني تشعر الذات أنها قد امتزجت مع العمل الفني وبالتالي تشيع بالشيء الذي تتأمله نوازعها ورغباتها ومشاعرها في شتى مظاهر إحساسها ، فعند تعرض المتلقي للوحة أو أي نتاج إبداعي لابد من أن يعتمد على الشكل المنسجم في ذلك التعبير الفني الذي  ينقل المعلومات ويهيئ القبول العقلي (أن صح التعبير) الذي يتجاوز الحسي في كثير من الأحيان فعند تحليلنا للقيمة الجمالية نجد ، انه لكي تكون هناك خبرة جمالية لدى المتلقي لابد من وجود موضوع يجسد الجمال (الموضوع الجمالي) ثم لابد من وجود وعي جمالي يتمثل بـ (الذات المدركة) ، وإذا كان هناك ذات مدركة للجمال واهتمامها منصب على الموضوع الجمالي (المتمثل باللوحة الفنية) فأن ثمة علاقة تربط بين الموضوع الجمالي والوعي الجمالي .... وهذه العلاقة تتمثل عند بعض الفلاسفة بـ (نظريتي الاندماج والتشابه الكلي ) ، ومن خلال هذه العلاقة يتم الدمج بين الذات والموضوع ومن ثم استحسان ذلك العمل الفني او استهجانه وبشكل متباين مابين متلقٍ وأخر، فالمنظومة القيمية تختلف وتتفاوت بين المتلقين فهم يختلفون في تذوقهم للجمال باختلاف تشكيل منظوماتهم القيمية ، فمن تتصدر القيم الجمالية منظومته القيمية يكون أكثر اهتماماً بالجمال وتذوقه من الذين تقع القيم الجمالية عندهم في مواقع متدنية من تلك المنظومات الفكرية .

سامر قحطان القيسي

المرفقات