الشاهد الخالد ..

بعد انتصار المسلمين في معاركهم أعيد تأسيس مدينة الكوفة المقدسة سنة 17 للهجرة، ، لتكون مقراً عاماً لقيادة جيوش المسلمين وداراً لهجرة أشهر الصحابة وأعرق القبائل العربية المقاتلة فتمدنت وصارت مركزاً فكرياً ومناراً علمياً وأدبياً وسياسياً لا نظير له لا سيما بعد أن أصبحت عاصمة للخلافة على يد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) ، وقد حفل تاريخ الكوفة في خلافته بمستويات من الحضارة والحياة الجديدة تجسدت بأروع الإنجازات الثقافية والفنون والعمارة الإسلامية التي مازال بعض من عمائرها قائماً حتى اليوم متمثلاً بأزقتها وبعض بيوتاتها القريبة من مسجد الكوفة المعظم الذي يعد من اهم العمائر الاسلامية والقلب النابض لهذه المدينة المقدسة .

يعد مسجد الكوفة المعظم  ثاني أقدم المساجد في العراق بعد مسجد البصرة ، فقد وضع أساسه في عام (17 هـ/ 638م) ، وكان على هيأة بسيطة فصحنه مكشوف ولا سور له ويحيط به خندق بدل الجدران ، فضلاً على احتوائه على سقيفة يستظل بها المصلون في الجهة الجنوبية للصحن ,وظل على هذا الحال حتى زيدت مساحته  وأُحيط بسور من اللبن والطين وبنيت جدرانه بالآجر وزُود بأعمدة حجرية يرتفع فوقها السقف .

ظلّ مسجد الكوفة المعظم صامداً يقارع العاديات ليبعثها من جديد وبقي شاهداً على عنفوانها وعظمتها وصار لها رصيداً روحياً، ليصبح كما نراه اليوم كما شغل حيزاً اكبر وأخذ شكلا هندسياً مربعاً تبلغ مساحته قرابة (12000 ) متر مربع ، حيث يبلغ طول الضلع الواحد فيه (110م) ويبلغ ارتفاع جدرانه المبنية من الطابوق الاصفر (20م) تقريباً ، ويدعم سوره من الخارج (28) برجاً على شكل أنصاف دوائر ،إضافة الى المنائر المميزة بتنوعها بين اسطوانية مزججة واخرى مضلعة مكسوة بالآجر ، ويقع المدخل الرئيسي للمسجد في طرف جداره الشمالي الشرقي الذي يؤدي الى صحن المسجد المكشوف المحاط بمجموعة من المحاريب المفتوحة على أروقة المسجد التي تطل على الصحن الشريف الذي حبانا الله فيه بمقامات الانبياء والأئمّة المعصومون ( صلوات الله عليهم ) حين اتخذوها مكاناً للعبادة والصلاة ، فقد كان مسجد الكوفة مُصلّى لجميع الأنبياء من لَدُن آدم إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين ) ليصبح هذا المسجد قلباً لمدينة الكوفة وقبلة اخرى للزائرين وباباً للدخول عند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .

اللقطات المرافقة لهذه الكلمات المتواضعة تشير الى بعض من عمائر المسجد المميزة بتراكيبها البنائية والزخرفية وعلى وجه الخصوص المئذنتين المضلعتين المرتفعتين عن ركني احد جدران المسجد المعظم .

شُيدت هاتين المئذنتين المتطابقتين حديثاً بعد عملية التوسعة التي أُجريت على المسجد مع بعض الترميمات التي شملت الصحن الداخلي وبعض أروقته ، والمنارة الواحدة عبارة عن تكوين معماري يتألف من ثلاثة أجزاء ، الجزء العلوي منها عبارة عن قبة ذهبية بهية تستند على بناء مضلع يحتوي على  شبابيك مؤلفة من تقاطع عمودي وافقي لتشكيلات خشبية صممت وفق تنظيم شبكي منتظم  .

اما الجزء الثاني فهو أكثر عرضاً من الجزء الأول ، وهو محاط بشريط زخرفي من الأعلى  نُفذت وحداته الزخرفية  المذهبة بأسلوب التنظيم الخطي القويم من خلال تكرار الوحدة الزخرفية  النباتية بشكل متسلسل ومتتابع ، وهذا الجزء ذي شكل مضلع أيضاً وقد وزعت عليه  تشكيلات زخرفية متنوعة ايضاً ، فالمساحات المضلعة الرفيعة احتوت في جزئها العلوي تشكيلاً زخرفياً جصياً مقوساً مكون من (ثلاث) حنيات مجوفة اتخذت تنظيماً تجميعياً وهرمياً بنفس الوقت فالحنية الأولى احتلت الجزء العلوي من هذا التكوين ووضعت على جانبيها دائرتان ، لتمكّن المزخرف من توزيع عبارتهِ الخطية المتمثلة بـ (ان الله مع محمد وعلي) على هذهِ المساحات التنظيمية التجميعية ، أما الحنيتان الثانية والثالثة فقد مثلتا القاعدة التي إستندت عليها الحنية الأولى وفق تنظيم هرمي .

أما المساحات المضلعة العريضة فتتوسطها نوافذ جصية مقوسة أُحيطت بإطار زخرفي قائم على مجموعة من الخطوط المنحنية والمنكسرة المتقاطعة والتي نفذها المزخرف على وفق نظام تكراري لتملأ مساحة الشريط برمتها مكونةً ما يشبه الأوراق المجردة ، والى داخل الشريط يُلاحظ وجود لتقسيمات مساحية غير متماثلة إذ احتل الجزء الأيمن منها تشكيلاً زخرفياً مقوساً بأسلوب الحفر القائم على مجموعة من الزخارف النباتية المجردة الناتجة من تقاطع بعض الخطوط المنحنية لتعطي تشكيلات زخرفية متنوعة ، وقد تفرعت من هذا الجزء المقوس ثلاثة خطوط لتكون مساحات هندسية صماء ، اما الجزء الأيسر من هذهِ النافذة فقد احتل مساحة زجاجية مستطيلة عمودية اما الجزء الثالث من المئذنة والذي يعد الاطول والاعرض مساحةً من الاجزاء الاخرى فقد توزعت على واجهاته المستطيلة الاربع مساحات زخرفية مقوسة مثلت النوافذ المحيطة بهذا الجزء المعماري ، وتتألف كل نافذة من تشكيل زخرفي مقوس محاط باطار زخرفي من الخارج مماثل تماماً للاطار المحيط بالنوافذ المثبتة على الجزء الأعلى  منه ، والى داخل الاطار يلاحظ وجود لزخرفة نباتية وكتابية نفذت بأسلوب الحفر ، إذ يلاحظ المتأمل وجود واضح لعبارتي (الملك لله) بصورة متقابلة استندت بمجملها على أرضية زخرفية نباتية قائمة على مجموعة من الأغصان والأوراق والأزهار البسيطة .

ومن هنا يتبين للمتلقي أن مآذن مسجد الكوفة بمجملها قد جمعت بين الماضي والحاضر من خلال تعدد اساليب تصميم واشتغال المعمار المسلم التي تميزت بحداثتها وانسجامها مع موروث الحضارة الاسلامية ، ونرى ذلك جلياً حين تأملنا الانسجام بين الأسلوب الزخرفي المنفذ على بعض البلاط المزجج وبالتحديد في المنارتين القديمتين وبين أسلوب الزخرفة الحجرية في المنارتين الحديثتين على الرغم من تباين ملمس السطوع ، ومن جانب اخر ، نلمس الانسجام العالي بين العناصر الزخرفية  المنفذة على مآذن مسجد الكوفة وبين البناء المعماري لكل مئذنة إستناداً الى طبيعة البنية المكانية للمسجد وما يحيط به من قدسية واضحة ، ولا يخفى على المشاهد أن توظيف الأشرطة الزخرفية الخطية المشغولة ببعض الآيات القرآنية المباركة وبأسماء آل البيت الأطهار (عليهم السلام) مع الزخارف النباتية قد عزز من إثراء الجانب الجمالي لتلك المآذن بما يتوافق مع تأريخ وهيبة المكان و وقدسيته .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات