سيدي ..عجل إلينا فقد طال الغياب

ارتبطت العمارة الإسلامية في الروضة الحسينية  بالوظيفة الدينية ، مما جعل الطابع الروحي غالباً على أنماطها ليكسبها هويتها المميزة التي ارتكزت على مبادئ فنية هندسية دقيقة تتمثل في ملائمة أشكال العمارة وعناصرها مع مبادئ العقيدة الإسلامية والبيئة التي تنتشر فيها ، فقد ورث الفنان المسلم تقاليد محلية واستفاد من مسيرة المدارس الفنية المشرقية والغربية وتنوع ثقافاتها وطورها بحدسه المميز الذي اتجه بأعماله الفنية نحو التجريد الخالص للأشكال بعيداً عن حقائقها ، بارزاً بذلك معالم عظمة وعبقرية الصانع الحرفي ونبوغه من خلال العناصر الإنشائية والزخرفية التي أغنى بها الحقل المعماري الإسلامي .

المنجز المعماري الماثل في المصورة اعلاه يمثل احدى القباب المتناظرة المنتشرة على سقف الصحن الحسيني الشريف والتي وضعت تيمنا بالاربعة عشر معصوما "عليهم السلام " ، وهي تحمل في طياتها كيان زخرفي متكامل منقوش على الكاشي الكربلائي المميز، وهو يشغل مساحة القبة من الداخل بشكل كامل  ، والتكوين ذي بناء زخرفي دائري  شُغلت مساحته الداخلية بتكوينات زخرفية مختلطة حققت جذباً بصرياً للمشاهد ، فاذا تأملناه عن كثب ، لوجدنا انه اتى بتوليفة  من الزخارف (النباتية والهندسية والخطية) المتزاحمة والتي  تواشجت فيما بينها ضمن نظام بؤري دائري اقرب للشعاعي يوضح ملامح بنيته التنظيمية المنبثقة من قلب الشكل المتكون من مخطوطة بأسم الامام الحجة المنتظر " عجل الله تعالى فرجه " والتي أعطت انطباعاً عن البعد الروحي لهذا التشكيل اضافة الى المكان الذي تشعله في مسقفات حرم الامام الحسين " عليه السلام  " .

اختار الفنان في هذا العمل الفني الرصين " الكاشي الكربلائي " ليكون سطحاً فنيا مميزا لتنفيذ ابداعه والذي يعود به الى ارث محلي يتجدد بروح العصر  .

يعد الكاشي الكربلائي من الصناعات الفنية التراثية العريقة ، وقد اقترنت تسميته بمدينة كربلاء المقدسة كونها تعد مصدر إيحاء لكل شيء يتعلق بالتراث والحضارة الإسلامية  ، وتمتاز هذه الصناعة او الحرفة التراثية العريقة  بمواصفات فنية وجمالية راقية ، فالألوان والنقوش والزخارف الجميلة ذات اللمعان الأخاذ والبهاء الساطع تؤكد المهارات والتقنيات العالية والخبرة الطويلة المتراكمة والمتوارثة التي يرتكز عليها العاملون في هذا الفن الراقي والإتقان والدقة والإبداع التي تميز هذا العمل دون سواه من الأعمال الفنية الأخرى ، فالكاشي الكربلائي فضلاً عن كونه يوحي بالمعاني والدلالات الروحية فإنّ فيه من الخصائص الجمالية والمتعة الفنية ما يشبع الإحساس، فصناعته الاولى يعود تاريخها إلى العصر البابلي الاول و كان يسمى بـ(كاشي الملوك) واللون الأزرق الغالب على أكثره يرمز إلى النقاء والاتجاه إلى السماء.

اعتمد الفنان في هذا البناء الزخرفي ( كما هو الحال في باقي القباب المنتشرة في مسقفات الصحن الشريف ) على وجود بؤرة مركزية أحاطت بها التشكيلات الزخرفية والكتابية الاكبر حجما ضمن إطارات دائرية لتنسجم مع الطبيعة المعمارية الدائرية للقبة ، فوجود البؤرة في مركز القبة  شّكلت الانطلاقة الشكلية لكل التكوينات الزخرفية الأُخرى ، حيث اخذت " البؤرة " شكلا خطيا مكتوبا عن الامام الحجة ابن الحسن " عجل الله فرجه الشريف " ، لتبث اشعاعات شَكّلت مساحة ذهبية خليطة بأشكال والوان متعددة أحاطت بها مساحات دائرية اتت على شكل شريط كتابي لآي من الذكر الحكيم ذكر فيه قوله الحق من سورة هود ((وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ  )) ، فضلا عن مساحات  أُخرى شُغلت بمجموعات من الأشكال النباتية الدقيقة وبالوان وتكوينات مختلفة اتصلت فيما بينها لتعطي تناسقاً لونياً يتراوح بين وحدات زخرفية حمراء واخرى برتقالية فاتحة اللون ، لتمتد بالأخير الى أرضية زرقاء.تشغل ما تبقى من المساحة الزخرفية  الدائرية التي احتلت الجزء الأكبر، المتألف من تكرار وحدات زخرفية متداخلة على شكل دوائر تحيط بمركز الشكل  لتمتد متصلة  فيما بينها وهي مختلفة الوحدات من حيث الحجم واللون ، فهي تكبر كلما ابتعدت عن المركزالخطي مقتربة من الاطار الخارجي للشكل وهي تحمل الوانا متباينة الحدة و الدرجات ، فضلا عن احتوائها من الداخل على  مجموعة من الزخارف التزويقية النباتية الدقيقة التي عمد الفنان الى اشتغالها لاكساب الشكل جمالية اعلى .

نحى الفنان في هذا المكون الزخرفي منحا جماليا واضحا من خلال طبيعة التجريد الحقيقية للأشكال الزخرفية النباتية والهندسية والتي لامست جوهر الرؤية الجمالية للفن الاسلامي في هذا المكان المقدس، فقد اعتمد عملية صياغة جدية للعناصر الخطية واللونية والشكلية والحجمية على أسس الوحدة والتناغم والتوازن والسيادة والتكرار المتعارف عليها ضمن سياق ابداع المزخرف الاسلامي ، وهذا ما استطاع تحقيقه في الطبيعة البنائية لهذا التكوين الزخرفي المتناظر مع اقرانه من الاشكال القببية العمارية الاخرى المنتشرة في سقف الصحن الحسيني المطهر.

.

احيط هذا التكوين المميز بشريط زخرفي اغلق المساحة الزخرفية الدائرية للقبة، ليكون على شكل انصاف دوائر متراصفة متجهة الى الداخل لتشكل مصفوفة دائرية تؤطرالشكل وتحدده من الخارج، نفذت باللون الازرق الفاتح على ارضية ترابية اللون يحدها من الخارج شريط من اشكال زخرفية نباتية متجاورة باللون الاخضرالممزوج ببعض الذهبي ليتجانس ولون الارضية التي نفذ عليها  .

هذا القوام البنائي بزخارفه الخليطة وسطحه الكربلائي الازرق أعطى تعبيراً واضحاً عن ارتباطات البعد الروحي والبنائي ، من خلال انسجام الوانه وتوظيف وحداته الزخرفية صغيرة وكبيرة في ملء المساحات التكوينية والتي تعطي ايحاءً بالاستمرارية والتعبير عن قدسية المضمون الروحي الذي يمثله إمامنا الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف ..

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة