حروف دافئة ..

تعتبر الفنون الاسلامية بمختلف صنوفها امتدادا طبيعيا للتأريخ الاسلامي العريق ، فقد برع على سبيل المثال الخطاطين في تطويع الخطوط العربية ، وبرع اخرون بتطوير فنون العمارة ونقوشها ، كما وتميز اخرون بان دمجوا بين صنفين من الفنون الاسلامية لتكون مزيجا متداخلا بين ارث اسلامي عريق وحداثة مكتسبة من واقع الفن المعاصر، كما الحال في اشراك فن الخط العربي في انجاز الاعمال الابداعية التشكيلية لتقع تحت عنوان " الحروفية في التشكيل " ، والتي اصبحت ملاذا ابداعيا للكثير من الفنانين الذين جمعوا بين روحية الحروف العربية المدعمة بفيض من الالوان المحاكية لنفس المتلقي .    

فقد باتت الحروفية في التشكيل تطرح حلولاً تشكيلية عديدة من خلال عمل المبدعين من جيل الشباب على مبدأ المزج بين ذات الفنان المسلم وموضوعية طرحه لفكرة العمل ، ومن هؤلاء الذين ابدعوا في هذا المجال هو الخطاط والفنان العراقي "أحمد عبد الرزاق" المميز بريشته الحروفية ذات الالوان المميزة.

اللوحة اعلاه من منجزات الرسام والخطاط  العراقي المغترب "أحمد عبد الرزاق" ، وهو من مواليد "العراق" 1976 ، حاصل على شهادة البكالوريوس من اكاديمية الفنون الجميلة جامعة بغداد ، وكان ذلك بعد حصوله على شهادة الدبلوم من معهد الفنون الجميلة في بغداد ، وهو عضوا لتجمع التشكيليين العراقيين وعضوا للمركز الثقافي العراقي للخط والزخرفة فضلا عن عضويته في نقابة التشكيليين العراقية   ومجمعية الخطاطين العراقيين / بغداد .

اقام احمد العديد من المعارض الشخصية والمشتركة في داخل العراق وخارجه وحاز على الكثير من الجوائز المحلية والعربية ، وقد مثل ّ العراق في كتابة الجزء الثالث والعشرين من مصحف الشام الذي يعد احد  أكبر مصاحف العالم ، والذي اتى بأبعاد ( 2*1 م ) بمشاركة ( 68 )خطاطاً اخرون من دول اسلامية عربية وعالمية مختلفة .

يمثل التكوين العام للوحة اعلاه والتي نفذت بأسلوب التجريد الفني ، مساحات لونية بارزة تتدفق من وسطها حروف مختلفة الاحجام والالوان بتنظيم عشوائي ، مستعينا  " الفنان "بموجة متجانسة من الالوان الحارة والباردة التي شغلت مساحة اللوحة بالكامل ، معتمدا التكوينات الخطية الكوفية في إبراز أشكال مفردات اللوحة وحركتها ، ففي كل لوحة هناك اشكال غير محسوسة من الحركة المستمرة بين عناصرها ، تدفع المشاهد الى تلمس منعطفات جديدة بايحاءات ايمانية كلما عاود النظر اليها ليتأملها ، ليستمر عنصر الحركة فيها احيانا " بأختلاف المشاهد وذائقته " ليخرج من حالة الخطوط التقليدية الى حالة من الابداع الحداثوي المحمل بروح الخط التراثية وحداثة الرؤى الفنية للجيل الحاضر من الفنانين والخطاطين العرب المسلمين كما هو الحال مع هذه اللوحة ومبدعها احمد عبد الرزاق .

استخدم الفنان في هذه اللوحة الالوان الحارة كالأصفر والاحمر وتدرجاتهما مع استخدام بعض تدرجات الالوان الباردة للتخفيف من حرارة اللون الاحمر كالأبيض والاسود وبعض من تدرجات اللون الازرق السماوي وقليل من البنفسجي الفاتح ، خصوصا في ابراز هيئة الحروف في وسط اللوحة وترك انطباع الضوء المشع من وسط اللوحة الى اعلاها ، فضلا عن استخدام اللون البني ببعض تدرجاته المميزة التي اكسبت اللوحة طابعا طوليا مميزا ، كما حقق الفنان نوعاً من الإيقاع الرتيب ، حيث تباينت مفردات الحروف وباقي الاشكال في اللوحة في لونها وحجمها وفي مسافاتها ، لكنها تشابهت في تمثيلها لروحية اللوحة الاسلامية وذات الفنان المتأثرة بالحرف العربي وروح الفنون التشكيلية الحديثة ، فقد وزع  احمد مفرداته في المركز الأكبر للتكوين" الحروف العربية الكوفية "، تاركاً  الفضاء المحيط بالأشكال ليكسب المشهد جمالية ً استثنائية ، نتيجة لتوازن المساحات واستقرارها في الوسط وانسجامها مع بعضها البعض .

وظف احمد أشكال الحروف  بهيئة منظورية مميزة للمشاهد لن يجعلها رموزاً من ذاكرة الاسلام وبدايات الخط الكوفي القديم بحروفه الغير منقوطة ، وهنا نلمس تحولا دلاليا واضحا بالاسلوب الفني الاسلامي الذي اتبعه الفنان ، فالحرف العربي  بانحناءاته اصبح في لوحته كرمز هو الأقرب في التعبيرعن الاستمرارية واللانهائية ، من حيث امتلاكه " الحرف " لأبعاد حضارية وخصوصاً البعد الإسلامي ، لكون الحرف العربي يمتلك مضموناً قدسياً مستمداً من القرآن الكريم المنزل من البارئ جل وعلا ، فضلاً عن ابتداء بعض الآيات الكريمة بأحرف متفرقة ، لهذا يحمل الحرف العربي مضمونا قدسياً وبعداً روحيا ابدع الفنان في توظيفه تشكيليا في هذا المنجز المميز ليصبح مركزا ًسياديا في اللوحة ، فضلا عن وظيفته الاخرى في اعطاء اللوحة بعدا منظوريا من خلال اقتراب الحروف من عين الناظر وابتعادها عنه في وسط اللوحة .

تلك هي احدى سبل الدخول الى قوالب البنية الفنية التشكيلية الاسلامية المنادية بمزج الماضي بروح العصر، فالحرف العربي يتسم بالعبقرية والوقار .. فكيف هو الحال ان مزج في تراصف مذهل مع الالوان ؟ .. لا يكون ذلك الا من خلال عشق متبادل بين حروف ناعمة وريشة فنان متأصلة في قواعد تلك الابجدية المختزنة وجذورها التي ارتوت من معين روح الاسلام وكلمات الله التامات وحروفها الدافئة  .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات