الزمان والمكان في البنى التشكيلية الابداعية

 فن الرسم عالم سحري اقرب الى الخيال مرن في تشكلاته البنائية ، سواء اكان مطابقاً للطبيعة الشيئية او مفارقاً لها ، كالتجريد في الرسم والرسم التجريدي ، وهو قائم على نظام من العلاقات بين اجزائه ، فالفنان حين يستخدم العناصر المكونة وينظمها جمالياً بطريقة محددة انما يقيم الصلة بين اجزاء ذلك العمل ليبدو كلاً  متكاملاً ذي معنى.

ولما كان هذا التشكل هو تشكل حسي بصري، فان ادراكه وتأمله لا يمكن ان يكون دون ابصار وفي وسعنا بلا شك ان ندرك العمل الفني ككل من خلال نظرة واحدة ، وهذا امر على جانب عظيم من الاهمية بالنسبة للتذوق الجمالي ، غير ان هذا الادراك وحده لا يكفي دون فترة تتابع فيها سلسلة من ردود الفعل ، أي ان فهم العمل الفني لابد وان يكون مقروناً بنظرة تحليلية لمكوناته ، وهي النظرة التي بموجبها يتم الانتقال بين تلك المكونات حتى ينتظم العمل الفني في سلسلة  مترابطة ، وفي ذلك تتابع للحظات وشعور بوجود القرب والبعد .. بمعنى ان زماناً قدْ مر محدداً من  بداية التأمل و نهايته ،  فالأعمال الفنية لا يمكن ادراكها الا في الزمان وخلاله.

فلاريب ان يستغرق المشاهد وقتاً لتحريك العين على اللوحة والمسير حول اشكالها بحيث نستطيع ان نرى تفاصيلها من مختلف الاوضاع. وهذا ينطبق على قراءتنا لقصة، او سماعنا لحناً موسيقياً، فمثلما تظهر القصة وتكتمل، ويتوضح اللحن بشكل تدريجي خلال الزمان فأن وضوح اللوحة وفهمها والاستمتاع بقيمتها انما يتبدى لنا على نحو تدريجي ايضاً خلال الزمان ، والزمان المرافق لعملية فحص الاجزاء المكونة للعمل الفني بشكل متعاقب هو ما يطلق عليه بزمن التأمل.

ان فعل الذاكرة في تجميع الاجزاء وربطها ببعضها هو تماماً ما يحدث حين ننظر الى لوحة تصويرية ، اذ ان محاولة فهمها وتحليلها بتأمل اجزائها انما تقوم على ربط اللحظات المتعاقبة ببعضها بالرجوع الى الذاكرة التي توصل السابق باللاحق وتوقعنا الذي يربط ما تقدم بما سيكون ، فلحظات التجربة تترابط في الاستمتاع الجمالي ترابطاً احكم مما يحدث لها في أي نوع آخر من التجربة ، وما ندركه في اللحظة الآنية يكون مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بما سبقه، ويثير توقفاً لما سيتلوه.

وهذا يحدث حينما تكون لدينا الرغبة في فهم التجربة الفنية وحين يكون العمل الفني مترابطاً وموصولاً بعضه البعض من خلال احالة جزء الى جزء آخر على سطحه المصور باتجاه انشاء علاقة تبادلية بين الجزء والكل، وهذه العملية انما هي خلق لصورة الحركة التي تأخذ بعدها ومدلولها الزمني .. وتستمد سماتها من خلال الطريقة المحددة مسبقاً، والتي نظم بها الفنان ذلك السطح المصور.

 ان حركة العين في شكل ما ليست بالتأكيد حركة محددة وقسريه ، ولكن من الممكن ان توجه بنوع من التأثير ، و الذي بدونه لا ندرك تكوين الصورة ادراكاً واضحاً ، لان توجيه حركة العين يعني ان هناك مساراً لصورة حركة متخيلة وموجهة من قبل الفنان داخل اللوحة ، ومن شأن هذا التوجيه الذي يتضمن التعاقب ان يجعل صورة الزمن في كل الكيفيات التي يبنى عليها ويشيّد، ان تظهر في وحدة منظمة ومستمرة ، وهذا يعني بسط عالم الصورة بسطاً منظماً ومن ثم التهيئة لبلوغ معناها ،أي ان المتحكم بذلك هو زمان الفعل التصويري الذي انشأه الفنان ، فبدون زمان لا يمكن ان يقوم العمل الفني ومن ثم يأخذ بعده المادي والذهني. فالبناء المكاني للصورة لا يمكن فهمه او تعقله ، اذ يبقى منقوصاً من حيث احداث فعله الذهني والعاطفي من دون زمان يجعل عالم الصورة متكاملاً.

فالرسم او التصوير له صلاته ومقوماته الزمانية والمكانية ، باعتبار الشكل المادي للعمل الفني واقعاً فيهما وفي الوقت نفسه يشكلان بناء المحتوى التمثيلي او التصويري له ، فلا بد للعمل الفني من بنية مكانية تعد بمثابه المظهر الحسي الذي يتجلى على نحوه الموضوع الجمالي المبتغى اظهاره ، كما انه لا بد من بنيه زمانية تعبر عن حركته الباطنية ومدلوله الروحي بوصفه عملاً انسانياً حياً ، فالزمان هو فكرة مستشعرة قائمة في اساسها على تماس التفكير التخيلي للمظاهر المادية الحسية ويقوم عليه ادراك الاشياء والافعال سواء في الواقع او عالم الصورة .

و ان تدخل الزمان في البنى التصويرية المتخيلة بغية تنظيم تلك الصور من حيث التشكيل وتسلسل الاحداث والافعال يعنى ان زمان الفعل التصويري هو زمان مشيّد وان كيفيته في عالم التشكل البصري مختلفة عما هي في الواقع وذلك لأنه في الصورة يشتغل في حدود المعرفة والتجربة الجمالية فهو خاضع في تشكله وتنظيم جريانه لصياغة ذاتية وشعورية تخص وجود الصورة ومظهرها وصياغتها البنائية. فهو حقيقة مجردة يشغل بطريقة يوجبها الواقع التصويري، أي بطريقة تعرضها الضرورة البنائية والتخيلية والفكرية لذلك الواقع، ومن ثم سيمتلك الزمان احكاماً وقيماً لا تتطابق مع صورته او شكله وارتباطاته في الحياة المادية، فهو في عالم الصورة يبقى ممثلاً للصياغة التشكيلية التي انشأها الفنان بغض النظر عن ارتباطاته بالأبعاد الخارجية التي تنتمي اليها اشكال الصورة الحياتية .

 

جمع وتحرير

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات