سوق من قلب كربلاء ..

حين التأمل في البناء التركيبي لمشهد الرسمة اعلاه يمكننا الإحساس بالمعالم الجمالية التي يوليها الرسام للمنجز، فالتوازن الحاصل بين مساحات المشهد - التي تتوزع على جانبي الشكل الرئيس المتمثل بمرقد   المولى ابا الفضل سلام الله عليه - يضفى رصانة للإنشاء التصويري من خلال توزيع مفردات المشهد بشكل متناظر على الجانبين ، في حين نجد إن الخطوط تتداخل مع ضربات الفرشاة المجردة التي مثلت بها ألوان العناصر المكونة للوحة من شخوص وابنية ، فالفنان يعطى ألوانه ضرباً  من الشاعرية الغنائية ، فتتباين معالجاته اللونية بين الاختزال والتبسيط ،حيث يستعيض عن ملامح اجزاء اللوحة بإضافة ضربات لونية صريحة فيها الأحمر والأصفر والأزرق والأبيض وهي في حد ذاتها ألواناً تمثل طبيعة المجتمعات البسيطة في المدن المقدسة  .

 إن إيقاعية الألوان عند الفنان تخلق نوعاً من الديناميكية داخل المشهد  ، في الوقت الذي يحافظ المشهد على انسجام وتناسق الألوان، أما الفضاء فلا نكاد نرى فراغاً إلا في أعلى المشهد ، ولكنه يداخل بين سماء الموضوع  وأرضيته حيث نراهما مندمجين في جو يوحي بالاستمرارية واللانهائية، وقد مُثلتْ الأشكال على وفق منظور خطي رغم التجريد الواضح  على الأشكال .

  اهتم الفنان في هذا المنجز الابداعي بتوظيف الرمز الإسلامي كشكل يمكننا إدراكه بسهولة فهو ثابت ومميز ، لذا فقد استعان بشكل المرقد وجعله عنصراً رئيساً سياديا ومركز استقطاب في المنجز ، وايضاً جعل منه أداة للربط بين مفردات الموضوع ليجعل منه بؤرة ضوئية من خلال إعطائه اللون الذهبي ، ومن ثم توزيع باقي الأشكال الاخرى المستوحاة من واقع الشارع الكربلائي كالأبنية والعمائر المكونة للسوق فضلاً عن ، الشخوص والعربات الخشبية التي يضج بها السوق الكربلائي عادة لكسب الرزق .

  اما المضمون الاجتماعي لهذه اللوحة فيتمثل بالزيارة والزحام الذي يعم شوارع وازقة مدينة كربلاء المقدسة ، الأمر الذي جعله يجسده بصورة تعبيرية تجريدية فيها نوع من التشخيص متأثراً بقرينه الفنان المسلم ، فبساطة الألوان وصراحتها وما تحمله من معان رمزية نجدها في أعمال كثير من الفنانين الاوائل ومنهم يحيى بن محمود الواسطي .

    أن توزيع العناصر والاشكال داخل فضاء المنجز أهم ما يمتلكه الفنان ، ونلحظ هنا ان المشهد يكاد يخلو من العنصر البشري حيث اكتفى بالدلالات الرمزية ، وربما يعزى سبب ذلك الى أن هناك فترات من الظلم والاستبداد قد منعت فيها زيارة المراقد المقدسة لأهل البيت سلام الله عليهم وبالأخص عنصر الرجال ، ولأن هذه الأماكن تذكر بثورة الحق بوجه الباطل التي جسدها الإمام الحسين واخيه ابي الفضل العباس عليهما السلام ، ومن هذا المنطلق نجد أن توظيف الفنان المسلم للرموز الإسلامية مثل المراقد والمشاهد المقدسة  ، ما كان الا لما تحمله تلك المقدسات من قيمة مثالية وروحية للفنان والمجتمع فجسدها الرسام بتركيبة عصرية ، ليعطي فكرة وانطباعا عن أهمية أصحاب هذه الأماكن وفي الوقت نفسه يعطي شكلاً جمالياً خلاقاً من خلال توازن الأشكال وألوانها داخل البناء التركيبي للعمل وهذا يعكس تأثر الفنان الفكري والديني والعقائدي بالموروث الإسلامي . 

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة