هي، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله ... كلمات رددها امير المؤمنين ( عليه السلام ) قبل ان تمتد اليه يد اللؤم في فجر اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ( 40 هـ) ، إذْ ضَربَهُ اللعين ابن ملجم بسَيفِه المسموم وهو ساجد في محرابه ، ليبقى يعاني من ضربة المُجرم الأثيم ثلاثة أيام ، يلهَجُ فيها بذكر الله والرضا بقضائه والتسليم لأمره ،كما كان ( عليه السلام ) يصدر الوصيَّة تلوَ الاخرى ، داعياً إلى إقامة حُدودِ الله عزَّ وجلَّ ، محذِّراً من اتِّباع الهوى والتراجع عن حَمل الرسالة الإسلامية حتى فاضت روحه الشريفة في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك .. اللّهُمَّ لابُدَّ مِنْ أَمْرِكَ وَلابُدَّ مِنْ قَدَرِكَ وَلابُدَّ مِنْ قَضائِكَ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِكَ ..
اللوحة اعلاه من منجزات الفنان الايراني يوسف عبدي نجاد ، وهو من المواهب الشابة الذين ابدعوا في مدرسة المينياتور الحديثة ورائدها الدكتور محمود فرشجيان ، والذين حاولوا مزج الفن الحديث بالمدارس الفنية الشرقية القديمة من ناحية الاسلوب والتقنيات المستخدمة في الانجاز .
تمثل هذه اللوحة الصراع الازلي القائم بين الكفر والايمان والخير والشر وتعكس الرؤية الرمزية والتعبيرية للفنان وصفة التحرر التي انتهجها في هذا العمل بعيداً عن ألوان الكلاسيكية ، والتي تجسدت في استخدامه المفرط للون الازرق ودلالاته الروحانية الواضحة .
يتضح في هذا العمل مستويات مختلفة للحركة ، فقد صور الفنان احداث المشهد وكل شيء فيه ينتهي عند كتلة مركزية تتمثل بشخص الإمام علي " عليه السلام " كمركز سيادي للعناصر البنائية اللوحة ، فجميع الخطوط و الانحناءات الممثلة لشخوص اللوحة تتجه بحركة اشبه بالدائرية نحو الامام "عليه السلام "، وقد صوره وهو ساجد لله جل وعلا واللعين يهم بضرب هامته من خلفه والملائكة تدور بهلع حول الامام من هول وعظم المصيبة التي ستحل على يد اللعين بقتل امام المتقين عليه السلام .
بادر يوسف في هذه اللوحة و كما هو متبع في فن المنمنمات الى ترجمة حيّة ومتحركة للحظة استشهاد امير المؤمنين عليه السلام وهو ساجد في محرابه ليله التاسع عشر من رمضان ، وكان ذلك من خلال دقته المتناهية في رسم شخوص اللوحة والالوان المميزة بانسيابيتها وتمازجها فيما بينها بتدرجات مختلفة ومتناسقة في نفس الوقت، فقد استخدم مجموعة من الالوان الحارة والباردة واكد في رسمته على اللون الازرق والفيروزي وبدرجات متفاوتة كسمة للمقدس ، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الفنان عمد الى ابراز بعدا منظوريا وعمقا مميزا للوحة ولم يكن ذلك الا بالألوان، مما جعل اللوحة تنطق بما فيها ليستحضر قارئها المتأمل لها يوم جرح امير المؤمنين على يد الكفر كله اللعين ابن ملجم المرادي .
عمد الفنان إلى توزيع مفردات منجزه بصيغة شملت جميع السطح التصويري ( بدافع الإلمام بالسرد الحكائي للفاجعة ) وجعل تنظيمه بطريقة مرتبة على شكل مجاميع او مقاطع دائرية واخرى بيضوية وأعطى لكل مقطع منها رموزه الدلالية المكانية والفكرية المرجعية، مع ملاحظة عدم لجوئه إلى العمل بطريقة النسبة الاعتبارية، فكل المفردات أخذت شكلها المتخيل عامدا إلى إزاحة الكتل والأفراد شكلا باستخدام النقيض اللوني لإظهار عنصر السيادة في العمل المتوافق مع خلفية اللوحة ، مع التأكيد على الخط كعنصر أساسي في بناء الشكل وإظهار التفاصيل والانفعال ، واستغلال الالوان بمهارة عالية لإملاء المساحات بطريقة مباشرة وفقا للمدلول الرمزي لكل لون ، فقد استخدم اللون الفيروزي بدلالته الروحانية لإبراز شخص امير المؤمنين المقدس والسماء والملائك من حوله قد استمدت منه قدسية بانسحابات اللون الفيروزي الى الازرق السماوي التي يطغى عليها مشكلة المساحة الاكبر من السطح التصويري .
اما الالوان الاخرى التي شغلت حيزا تعبيرياً في اللوحة فقد وزعها الفنان بدراية على العناصر الاخرى ، فلو امعنا النظر في اللون الاحمر لوجدنا انه يحتل مكانين متناقضين الاول على جسم اللعين ابن ملجم ليكون دلالة على اللؤم والخبث الذي يحمله ونار جهنم التي سيخلد فيها ابد الابدين ، اما المكان الاخر فيتمثل بالدماء المتناثرة امام امير المؤمنين عليه السلام ودلالتها الروحية المقدسة ، ولا يخفى على المشاهد للوحة ما تشغله اشكال الملائكة وهيئاتها الزاهية ببعض الالوان الحارة والباردة التي زادت من روحانية اجواء اللوحة وعظم الحدث الذي تصوره .
تجاوز الفنان في هذه التصويرة حدود قوانين الرؤية المادية ( الزمانية والمكانية ) التي يحكمها العالم العياني الملموس ، نائيا بذلك عن تسجيل صورة الزمن الفيزيائي على السطح التصويري واحكامه القائمة على العلاقات المنظورية و التي تحيا في الفضاء الثلاثي الابعاد ، فطريقة تجميع الصيغ الزمانية المتعاقبة التي تؤلف الحدث الكلي و جعلها متساوية في ظهورها وايضاً تطويع البنية المكانية لان تستوعب الحدث متسلسلا في لمحة بصر، لم يكن الا تشييدا لزمان ذهني ذاتي من خلق وابداع الفنان، فهو انعكاس لرؤية شمولية مستلهمة من فاجعة اغتيال امير المؤمنين والتعبير عنها بمنطق تصويري تخيلي يستحضر مقومات الصورة الزمانية والمكانية دفعة واحدة وبالتالي تجلي المفهوم بدقة متناهية امام المتلقي .
ان قدرة الفنان البنائية القائمة على الخلق والابتكار وبالقدر الذي يسمح بتكامل المعنى الدلالي للحدث التصويري جعلت من موضوعة هذه اللوحة تمثل سرداً حكائياً واقعياً مؤثراً لفاجعة استشهاد الامام علي ( عليه السلام ) ومصيبة فقده التي عدت من أشَدِّ المصائب التي حلت بالأمة الإسلامية من بعد مصيبة فقد نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
فسلام على سيف الرسالة الخالد ودرعها العظيم والقربان الأول ومُحكِم صرح الدين وعزّه ورحمة الله وبركاته .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق