مراسٍ على ضفاف بغداد

يعد الفن التشكيلي العراقي من اقدم الحركات الفنية في منطقة الشرق الاوسط ، بل ويتصدر الحركات الفنية الاخرى في المنطقة العربية اذا ما قيس بها ، فالعقود المنصرمة من تأريخ هذه الحركة الفنية المعطاء اسفرت عن نوع جديد مميز من التشكيل العراقي يحمل مذاق يمتد الى موروث ثَرٍ بالثقافة والفن والابداع ، ممتزج مع روح العصر التي امتدت له ثقافات اخرى لينتج منه فنا حداثويا ذي لكنة تراثية ارتسمت ملامحها في اعمال الكثير من التشكيليين العراقيين التي ما لبثت ان انتشرت في بلدان العالم غربها وشرقها ، منطلقة من ارض هذا الوطن وجدرانه التي تفوح بعبق حضارة ارض السواد واصالتها .

اللوحة اعلاه احدى المنجزات الابداعية العراقية المليئة بالأمل ، لفنان عراقي حاول كتابة ارثه الثقافي بلغة الجمال الابداعي لينقل بها " واعمال اخرى من جنسها " تلك الاطلالة العراقية البغدادية لتنتشر في بلدان العالم ليستنشق من يراها نسيم دجلة الخير وإن لم يراه .. تلك اللوحة من اعمال الرسام العراقي المغترب خالد مدلل .

  الفنان العراقى المغترب خالد مدلل من مواليد بغداد 1971، وهو رسام مميز بأسلوبه الواقعي في طرح موضوعاته الفنية ، ويبدو انه شغوف بتتبع جمال الحياة العراقية وبساطتها ونقلها بصدق الى المتلقين ، معتمدا على الخيال في رسم وقائع الماضي بعيدا عن المغالاة  في مواضيعه الفنية المميزة  .

  في المنجز اعلاه أنشأ الفنان مشهد يقترب من الواقعية الدقيقة ، بأسلوب من المواجهة الكاملة للموضوع حيث ينفتح المكان عن مساحة افقية لجزء من مدينة بغداد  يطل على احدى ضفاف نهر دجلة وهو عامر بالبيوتات البغدادية الجميلة وعمارتها البسيطة الاخاذة التي ترتفع من وسطها مآذن المساجد والجوامع البغدادية بقبابها الزرقاء ومنائرها المميزة بنقوشها وزخارفها الاسلامية الرائعة ، لتناغم بعض اطراف النخيل المرتفعة من بين جدران تلك الازقة والشوارع الضيقة

   

  يصور مدلل في هذا العمل الفني كما اسلفنا جزأ من مدينة بغداد القديمة في بناء إخراجي يرتبط بمقولة اللوحة فهي تعريفات جديدة مميزة تعبر عن واقع التراث البغدادي، حيث استجمع الفنان في هذا العمل رموزاً بغدادية أصيلة تتمثل في المفردات التي صاغها في كل واحد منها كقباب المساجد والشبابيك المميزة بشناشيلها وهيئاتها الفنية الرائعة ، فضلاعن باقي البناء المعماري البغدادي المحلي الذي مثل البؤرة الرئيسية في تكوين العمل ، والتي يعاضدها من اعلاها فضاء حر ترتفع في عمقه النخيل كخلفية إنشائية شكلت عمقا منظوريا للوحة ، وفي الوقت نفسه تنساب مياه دجلة افقيا  لتشكل حدودا طبيعية اسفل البنية الموضحة في وسط اللوحة .

يتميز البناء العام للعمل الفني بالاختزال المنطلق من رؤية فنية معاصرة بمؤثرات لا تنفصل عن مرجعياتها وتراثها الشعبي ذات الخصوصية التي يبدو ان الفنان استقل بها من الضياع في التجارب الكثيرة التي سادت الساحة الفنية في الوقت الحاضر .

 اتخذت البنية العامة للوحة نسقاً فنيا يعتمد في تكوينه على الاشكال الهندسية المتمثلة بالأجزاء المعمارية كالمستطيلات العمودية والمربعات المتمثلة بواجهات المباني فضلا عن انصاف الدوائر المتمثلة باقواس بعض الشبابيك والابواب  والتي ابدع الفنان بصياغتها كما المعمار الذي انشأها بإظهارها بنسق متداخل متراكب دقيق يمنح العمل صفاته التزيينية الشعبية البغدادية .

  وتعد معالجات الفنان خالد مدلل ذات هاجس خاص يطمح دائما إلى إمكانية نقل الواقع عبر البساطة في تنفيذ الأشكال ودقة الأداء وأثار الفرشاة الناعمة أو بواسطة الطابع اللوني المتنوع والذي يبرع الفنان غالبا بإنشائه عبر التحكم بالعلاقات اللونية وتدرجات الضوء وتفعيل الإيقاعات داخل حدود الأشكال وخارجها بحيث يصبح العمل الفني بمثابة عالم مستقل تحكمه علاقاته الخاصة ويستقر في زمانه ومكانه الخاص على مقربة من موضوعاته لكنه لا يحاكيه نصا فهو كما ذكرنا من خيالات الفنان الواسعة المدعومة من صور الماضي ،ويعود الفنان في هذا العمل الفني إلى ذكريات الماضي الجميل  ،أو يخترق بها خفايا عالم التراث البغدادي من بعيد ،  حيث يمازج مدلل بين البناء الهندسي للأبنية البغدادية بألوانها الفاتحة وشناشيلها الخشبية ،والقباب والمآذن والنخيل مع الفضاءات اللونية المتمثلة بمياه دجلة وسماء بغداد الصافية وهدوئها ، بما يوحي للقارئ المتأمل  بان فكرة اللوحة مغلفة بعالم التراث والعودة الى الماضي البسيط وجمالياتها التي تحفظ تراث الإنسان وتشحن ذاكرته بما يغني مخيلته الفنية والجمالية بعيدا عن ضوضاء العصر وحداثته المتعبة.

 

 

 

سامر قحطان القيسي

 

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة