الراحة والطمأنينة ... احساس ينتاب من يتأمل هذه اللوحة بحروفها وكلماتها المتداخلة بمعانيها الواسعة في قوله تعالى ببعض ما تيسر من سورة الحديد (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (الحديد 22-23-24) .
اللوحة من سلسلة الاعمال الفنية الخالدة لفنان الحروفيات الراحل " عثمان وقيع الله " ، وهو من مواليد أواسط السودان 1925 م - 2007م ، تفاوتت دراسته للفنون بين كلية غردون في السودان (1942- 1945)، فضلا عن مدرسة الفنون الجميلة في نفس الكلية (1945-1946) ثم التحق بكلية كاميرويل للفنون في العاصمة البريطانية لندن ، وتنقل للدراسة في لندن العاصمة بين كلية سيتي آند تميلدز للفنون ومعهد كورتو لتاريخ الفنون بلندن وصولا لالتحاقه بمعهد الخطوط في القاهرة ليدرس الخط وفنون اخرى في كلية الفنون التطبيقية فيها ، وقد حازعلى إجازة الخط العربي من أساتذة الخط العربي بمصر ومنهم الخطاط المصري الاستاذ سيد إبراهيم انذاك .
يعد وقيع واحداً من أهم التشكيليين الحروفيين في المنطقة العربية الافريقية ، لقدرته المميزة على الخروج بالحرف العربي من أسر التكرار والزخرفة إلى حرية التمدد في مساحة اللوحة طولا وعرضا كعنصر مكتمل بذاته ، من دون تغييب لهيئته الدلالية ، فقد كثف من دراساته الخطية التي لطالما شغلته للخروج بفن الخط العربي من حيز قواعد الخط العثماني والفارسي واشتغالاتها ، الى متسع آفاق الحرية الفنية الماثلة في إزالة التأطير والمحسنات الخطية والزخارف الرتيبة الى التجارب الفنية الرائعة ، التي نتج عنها اسلوبه وطريقته في تشكيل الخط فنيا ليرتقي في اعماله الى الفرادة في الاسلوب الخطي والتشكيلي على حد سواء .
فكرة اللوحة اعلاه منبثقة من اصول الخط الكوفي المتميز بخواص تشكيلية مميزة تفتقر لها جميع الخطوط العربية الاخرى ، بدأ من هندسية اشكالها وحرية الحركة في رسم حروفها وطراوة أطرافها فضلا عن طواعية التشكيل التي اتى بها الفنان ممزوجة ببراعة مع خطوط اخرى مكونة النص القراني بجمالية استثنائية داخل حدود اللوحة .
فقد يجد المشاهد المتأمل في حدود هذه اللوحة الاندماج الهادئ بين الفراغ واللون وكُتل الحروف العربية كبيرة وصغيرة التي تتحرّك بين مدى الترميز اللغوي ، والدلالة الروحانية البعيدة فضلا عن تموضعاتها التشكيلية المدروسة ، باستخدامه الالوان الحارة والباردة كأرضية وظلال ممتدة في عمق اللوحة للنص القراني المقدس لبعض ايات مباركات من سورة الحديد ، لتتناغم وتتداخل جمالياً مع وجود متعدد لهيئات الحروف والكلمات خطا وتشكيلا توازيه احتمالات متعددة ومتراكبة لقراءة اللوحة من قبل المشاهد .
افلح الفنان في اثراء الساحة التشكيلية الحروفية عربيا وعالميا ، ويظهر ذلك جليا من خلال الارث الكبير الذي تركه من اللوحات والمخطوطات الفنية التي شغلت حيزا في الكثير من المتاحف ودور العرض العربية والعالمية ، فالخط العربي وتوظيفه تشكيليا لم يكن مقتصرا او محدودًا في بلد أو إقليم عربي على وجه الخصوص ، بل انتشر ليتوزع في ارجاء العالم ككل " اسلامي او غير اسلامي " معتمدا على تنوع أشكال الخط ، بغية إضافة أبعاد فنية جمالية لمفردات الالوان حتى تظهر بعض الكلمات والحروف كأنها سابحة في فضاء لوني ذي بعد منظوري عميق من الالوان ع، ومن الجدير بالذكر ان الكثير من الفنانين قد شرعوا بأستخدام الحروف لتأكيد ملامح خاصة في أعمالهم من ابرزها الهوية العربية الاسلامية كما فعل الكثير من فنانينا العرب الذين نشروا بأعمالهم الفنية تعريفا مهما للحرف العربي وجمالياته في الكثير من دول الغرب مهاجرين او دارسين .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق