سند رواية الوصية (ج1)

لقد وقع الإتفاق بين السواد الأعظم من الأمة بكلتا ثقليها الشيعة والسنة، على أنّ التراث الروائي المنقول لنا في الكتب الحديثية، والمنسوب للنّبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) كما هو عند أهل السنّة، وللنّبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما هو عند الشيعة.  فيه نسبة لابأس بها من الأحاديث أو الروايات الموضوعة، وعليه فتراث المسلمين الروائي فيه الصحيح والضعيف، وفيه الموضوع وثابت النسبة، وفيه المضاف والناقص... .

وحقيقة الدس ووضع الأحاديث، من الحقائق التي نبّه عليها النّبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله) ، وكذالك أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) ،فقد أخرج الشيخ الصدوق حديث طويل، في كتابه « عيون أخبار الرضا (ع) » بسند صحيح، فقال:

« عَنْ إِبْرَاهِيم بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ [ الخراساني ] قَالَ : قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام ): يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام وَفَضْلِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ مُخَالِفِيكُمْ وَلَا نَعْرِفُ مِثْلَهَا عِنْدَكُمْ أَفَنَدِينُ بِهَا ؟.... - إلى أن قال - ثُمَّ قَالَ الرِّضَا (ع): يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :أَحَدُهَا : الْغُلُوُّ. وَثَانِيهَا : التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا. وَثَالِثُهَا : التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا.

فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا، وَإِذَا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعْتَقَدُوهُ فِينَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ - إلى أن قال - يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ : احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » . (عيون أخبار الرضا(ع)، ج1 ص272، باب فيما جاء عن الإمام علي بن موسى (ع) المقطع الأخير من حديث رقم 63)

وهذا الأمر هو ما قاد أعلام المسلمين، من المحدثين والرجاليين، لإنشاء جملة من القواعد والضوابط الشرعية والعقلية في خصوص قبول والإعتماد على الرواية من عدمها، فكان علمي الدراية والرجال هما المتكفلان بذالك، لأنه بدون هذه القواعد والضوابط، نجد أنفسنا بين ثلاثة خيارات :

 

 

الأول: أن نقبل ونعتمد في تَدَيُّنِنَا العملي على أي رواية كيفما اتّفق، وهذا بطبعه سوف يوقعنا في الحيرة والتناقض العملي، تبعًا لتعارض هذه الروايات في مضامينها، وبالتالي سوف تتشتت أفراد الأمّة في دينها وتديُّنها.

الثاني: أن نلغي ونرفض كلّ الروايات التي جاءتنا من النّبيّ (ص) وآله (ع)، لعلمنا المسبق باختلاطها بالضعيف والموضوع من الروايات، وهذا يترتب عليه ابطال لجزء كبير من التشريع الإلهي، خصوصًا وأنّ القسم الأكبر من التشريع الإسلامي وصلنا عبر الأحاديث والروايات، ولعلّ هذا الأمر هو ما وقع فيه ما يسمونهم بالقرآنيين، حيث ألغوا السنة وتوقفوا في عملهم وعباداتهم عند القرآن فقط، فأبطلوا بذالك الجزء الأكبر من التشريع الإسلامي .

الثالث: العمل على صياغة جملة من القواعد والضوابط التي تستمد من الشريعة والعقل ، لمحاكمة الأحاديث والروايات، وجعلها الفيصل في الحكم على الرواية والحديث، وبالتالي تكون هذه الضوابط والقواعد هي المحدّدة لقبول الرواية من عدمها، وكذالك هي المقياس للعمل بالرواية من عدمه .

والخيار الأخير هو الذي ارتضاه السواد الأعظم من علماء وفقهاء المسلمين، لكونه يجنّبنا نتائج الخيار الأول والثاني، وهو الوقوع في التشتت والضياع في التدين، وكذالك إبطال القسم الأكبر من التشريع الإسلامي .

ولأجل التمكن من التمييز بين  الأحاديث الضعيفة والموضوعة من غيرها، عكف علماء المسلمين ولقرون طويلة على وضع تقسيمات منظمة للأحاديث والروايات، والتي تبنى في واقع أمرها على جملة من الضوابط الشرعية والعقلية، وهذا الأمر هو ما تكفل به علم الدراية، أمّا في خصوص القواعد التي تتعلّق بالرواة الراوين للأحاديث، وتحديد حالهم في الرواية ، من جهة صدقهم من عدمه، أو من جهة ضبطهم في الرواية من عدمه....، فقد تكفل به ما يعرف بعلم الرجال .

فكان أهم مايميّز المسلمين عن باقي أصحاب الأديان الأخرى، هو اكتسابهم لعلمي الدراية والرجال، والذي من خلالهما يحاكمون موروثهم الروائي، بينما لا نجدهما عند غيرهم .

 

 

 

ولذالك نجد السواد الأعظم من علماء مذهب أهل البيت (ع)، وعبر القرون التي فقدنا فيها حضور الإمام (ع) بيننا، يحاكمون كل الروايات من جهة سندها ومتنها، وخاصة التي فيها الأحكام التكليفية الخمسة (الوجوب، الحرمة، الإستحباب، والكراهة، الإباحة )، وكذالك الروايات التي تتضمن في متنها المسائل العَقَائدِية .

وذالك لأنّهم يدركون حقيقة أنّ التعبد لله بشيء، لابد وأن يُبْنى على مستند ودليل شرعي، وأيضا يتسالمون فيما بينهم، بأنّ وجود الرواية أو الحديث بدون ثبوت نسبتها للمعصوم (ع) -ولو على نحو الثبوت الظنّي الشرعي الذي يتولد معه الإطمئنان الموضوعي- كعدمه، وخاصة على المستوى العملي ، وهذا الثبوت الظنّي الشرعي، يتحقق لدينا من خلال تطبيق تلك الضوابط الشرعية والعقلية التي نُحتت ونُظّمت في علمي الرجال والدراية، على الرواية أو الحديث، لأنّ ذالك هو ما يُحقق في الرواية الحُجّية التي يصبح معها المكلّف ملزما عقلا وشرعا بقبول الرواية  والعمل بمضمونها .

ومن أبرز الضوابط التي قرّرها علمائنا وفقهائنا، ودَلَّت عليها الأدلة الشرعية والعقلية، هي اتصاف رواة الحديث أو الرواية بالصدق والوثاقة في النقل، وقبل ذالك تمامية السند أيضًا من خلال اتصال رواة الحديث بعضهم ببعض، لا انقطاعه بحيث يكون الراوي قد روى على شخص لم يره ولم يلتقيه، بل قد يكون لم يعاصره حتى .

ونحن في هذا المقام سوف نعمل على محاكمة سند ومتن إحدى الروايات التي وردت إلينا من النّبيّ الأكرم (ص) عن طريق أئمة أهل البيت (ع) ، وأخرجها الشيخ الطوسي (رح) في مصنّفه « الغيبة » ، والتي عُرفت في بعض الأوساط بـــــــــ « وصية النّبي (ص) ليلة وفاته لأمير المؤمنين علي (ع)  » .

 

مصادر الرواية في الكتب الشيعية :

وقبل الشروع في الحديث حول ما يتعلّق بسند ومتن الرواية، لابد من التحقيق في مصادر الرواية، وذكر المصنّفات التي أخرجتها، لدخالة ذالك في توليد حالة الإطمئنان الموضوعي حين العمل بالرواية، بناءًا على مبنى تراكم القيم الإحتمالية، الذي يُبنى على جمع القرائن المختلفة في الحكم على الرواية .

 

وعليه فعند العودة لكتب الحديث الرئيسية والمعتبرة عند الشيعة كالمجامع الحديثية، من قبيل الكتب الأربعة ، لا نجد من أخرج رواية الوصية ، إلا الشيخ الطوسي الذي تفرّد بذكرها في  كتابه « الغيبة » ، وخاصة تلك الكتب التي صُنّفت في خصوص القضية المهدوية، من قبيل :

كتاب : الغيبة لمحمد بن إبراهيم النعماني . كتاب : كمال الدين وتمام النعمة، للشيخ الصدوق . كتاب : المقنع في الغيبة، للشريف المرتضى . المسائل العشر في الغيبة، للشيخ المفيد . رسائل في الغيبة، للشيخ المفيد .

نعم نُقلت هذه الوصية في بعض مؤلّفات متأخري ومتأخري المتأخرين من  علمائنا ، إلاّ أنهم جميعا يصرحون بنقلها عن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ، وبالتالي لا اعتبار لتخريجهم للرواية ما داموا قد نقولها من مصدرٍ هو بين أيدينا ، ومن هذه المؤلفات التي نقلت رواية الوصية عن غيبة الطوسي  :

مختصر بصائر الدرجات، لحسن بن سلمان الحلّي ( من أعلام القرن 8 هـــ ) ( ص 143-145) . نوادر الأخبار في ما يتعلّق بأصول الدين، للفيض الكاشاني ( من أعلام القرن 11 هـ ) . ( ص 294 ) الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة ( ص 362)، وإثبات الهداة ( ج 2، ص 126، ح ر 376)، للحر العاملي ( من أعلام القرن 11و12 هــــ ) . غاية المرام (ج 1، ص 195-196)، والإنصاف ( ص 196-198، ح ر 119)، للسيد هاشم البحراني (من أعلام القرن 11و 12 هــــ ) . بحار الأنوار ( ج 53، ص 147-148)، للعلامةمحمد باقر، المجلسي الثاني (من أعلام القرن 11و12 هـــ ) . عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات و الأخبار والأقوال( القسم 3 من المجلد 15 ، ص 236-237، ح ر 227) لعبد الله البحراني الأصفهاني ( من تلامذة المجلسي صاحب موسوعة البحار) .

 

 

النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجة الغائب، حيث أشار للرواية دون ذكرها تفصيلا( ج 2، ص 71-72 )، للميرزا النوري، حسين بن محمد ( من أعلام القرن 13-14 هـــ ) .

هذا ما ظفرنا به في استقراء مصنّفات القوم،  وخاصة المتأخرين منهم ، أمّا المتقدمين الذين سبقوا أو عاصروا أو تأخروا عن الشيخ الطوسي بفترة ليست بطويلة، فلم نجد منهم من أخرج رواية الوصية  أو نقلها في مصنفاته .

متن رواية الوصية :

أخرج الشيخ الطوسي في مصنّفه « الغيبة »، فقال :

 

« أخبرنا جماعة ، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري ، عن علي بن سنان الموصلي العدل ، عن علي بن الحسين ، عن أحمد بن محمد بن الخليل ، عن جعفر بن أحمد المصري ، عن عمه الحسن بن علي ، عن أبيه :

عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ، عن أبيه الباقر ، عن أبيه ذي الثفنات سيد العابدين ، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد ، عن أبيه أمير المؤمنين(ع)، قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - في الليلة التي كانت فيها وفاته - لعلي عليه السلام :يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة . فأملا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال : يا علي إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماما ومن بعدهم إثنا عشر مهديا ، فأنت يا علي أول الاثني عشر إماما ، سماك الله تعالى في سمائه : عليا المرتضى ، وأمير المؤمنين ، والصديق الاكبر ، والفاروق الاعظم ، والمأمون ، والمهدي ، فلا تصح هذه الاسماء لأحد غيرك .يا علي أنت وصيي على أهل بيتي حيّهم وميتهم ، وعلى نسائي : فمن ثبتها لقيتني غدا ، ومن طلقتها فأنا برئ منها ، لم ترني ولم أرها في عرصة القيامة ، وأنت خليفتي على أمتي من بعدي فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن

 

 

البر الوصول ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه سيد العابدين ذي الثفنات علي ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الباقر ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه جعفر الصادق ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه موسى الكاظم ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الرضا ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الثقة التقي ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الناصح ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الحسن الفاضل ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد . فذلك اثنا عشر إماما ، ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديا ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه أول المقربين له ثلاثة أسامي : اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد ، والاسم الثالث : المهدي ، هو أول المؤمنين » (كتاب الغيبة ، ص 100- 101 ، باب الكلام في الواقعة ).

 

النقاش في سند الوصية:

المشكل الأول :

بمجرد إلقاء نظرة عابرة على سند الرواية، يطالعنا أول مشكل فيها، وهو الإرسال الذي أصاب سند الرواية ، ففي مطلع السند نجد أنّ الشيخ الطوسي قد أرسل رواية الوصية، فقال: « أخبرنا جماعة  »، وهذه العبارة فيها دلالة واضحة على حذف راوٍ أو أكثر من مطلع السند .

 

وقد يجيب بعضهم، فيقول : إن إرسال الشيخ الطوسي يمكن حلّه من خلال العودة لطرق مشيخته، والتي ذكرت في آخر كتابيه التهذيب والإستبصار، حيث قال فيهما: « وماذكرته عن أبي عبد الله الحسين بين سفيان البزوفري، فقد أخبرني به أحمد بن عبدون، والحسين بن عبيد الله عنه، انتهى » . ( الإستبصار، ج 4، ص 342 ، والتهذيب، ج 10، في المشيخة ص 87 ) فيُردّ عليه : بأنّ صاحب هذا القول إمّا هو جاهل واهم ، أو هو مغالط كاذب في مقصده ، وذالك لوضوح أنّ الطرق التي أوردها الشيخ الطوسي إلى البزوفري، متعلّقة بالروايات والأحاديث التي أخرجها له في كتابيه الإستبصار والتهذيب، لا هي متعدّية أيضا للروايات التي أخرجها في كتبه الأخرى، كما هو الحال في مقام بحثنا، وعلى من يدّعي ذالك فليتقدم بدليل يمكّننا من تعدية هذه الطرق لغير الإستبصار والتهذيب، ودون ذالك خرط القتاد . 

وعليه فمع ثبوت الإرسال في هذه الرواية، تسقط معه الحُجّية، وبالتالي فلا وجود لما يُلْزِم المكلّف بالتعبد بهذه الوصية أو العمل على طبق مضمونها .

 

(يتبع)

الكاتب : السيد حبيب مقدم التونسي