وقفة على واقع الحوارات والسجالات الكلامية التي تعتبر من الظواهر التي تشغل الواقع الفكري والإجتماعي في هذا العصر, لذا يقع الحديث في ثلاث نقاط : الأولى - : نحن نعتقد أنّ الحوار طبيعة فطريّـة في الإنسان, كما قال الله تعالى : {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} [1], حيث يستوحى من هذا النص أنّ الحوار صفة من الصّفات المتأصّلة في طبيعة الإنسان وتكوينه, وفطرة فطره الله عليها. فهو عندما تنمو عقليته, ويتفتح إدراكه على الحياة, ويرى ما فيها من أوضاع وظواهر وأحداث وأفكار واتجاهات, تتفتح لديه غريزة الجدل والحوار في مرحلة من مراحل حياته, حتى تتنامى لديه قضايا الفكر, وقد تكون لديه نظريّات واتجاهات قد تجرّ وراءها الكثير من الأتباع والأنصار, وتؤسّس في حياة البشريّة دوائر سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة واتجاهات فكريّة مختلفة. وقد احترم الله عزّ وجل هذه الطبيعة الحوارية, ومن بوادر هذا الإحترام للحوار, أنه تعالى أول من فتح باب الحوار مع الملائكة حين أراد أن يخلق آدم {وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [2]. ويستمرّ الحوار بين الله وملائكته, حتى أمرهم بالسّجود لآدم {فسجد الملائكة إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [3]. وهكذا تنفتح دائرة جديدة للحوار بين الله عزّ وجل وبين عدوّه إبليس, بالرّغم من تمرّده وعصيانه للأمر, تستطيع أن تتابعها في عدّة مواضع من القرآن الكريم, فيستوحى منها أنّ الله عزّ وجل يحترم المسيرة الحواريّة حتى مع قوّة الحجّة عنده عزّ وجل. بل حتى في عرصة القيامة لا يستهين عزّ وجل بهذه الطبيعة الإنسانية, حيث ترك للإنسان حريّة الحوار, وفتح له باب الدّخول فيه للدّفاع عن نفسه, فقال تعالى : {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون} [4]. غاية الأمر, فإنّ لله الحجة البالغة على الخلق, وإنّ حجج الإنسان لا تصمد أمام حجّة الله عزّ وجل, كما جاء في دعاء كميل : (فلك الحجّة عليّ في جميع ذلك ولا حجّة لي في ما جرى عليّ فيه قضاؤك وألزمني فيه حكمك وبلاؤك). الثانية - : من خلال مواكـبة الشرائع السّماويّة لطبيعة الحوار في الإنسان, - خصوصا على مستوى القرآن الكريم - ينبغي أن تتهذب حركة الحوار في حياتنا, وأن نستفيد من هذا المنهج في تنمية مواهبنا للدّخول في الحوارات بطريقة موضوعيّة, وتبنـّي أساليب الإقناع على مستوى تبليغ مباديء ومفاهيم الرّسالة الإسلاميّة, طبقا لمنهج الحوار الموضوعي, وهو أن ننتقل بالحوار من واقع الجدل والمهاترات اللفظية إلى واقع الحوار المنتج. إنّ مصطلح (الجدل), وإن كان يلتقي مع مصطلح (الحوار) في بعض الجهات, إلا أنّ الجدل غالبا هو من الظواهر التي تتحرّك في أجواء الخلافات والنزاعات والإنفعالات, وفي أجواء التعصب والتمسك ببعض الأفكار, والإصرار على الأخطاء في أغلب الأحيان, بهدف تعطيل قوة المقابل وإفحامه, لا لأجل الوصول إلى القناعة بالحقيقة العلمية. لذلك يعتبر الجدل في هذا الإطار أمرا مرفوضا في منطق القرآن الكريم, كما قال تعالى : {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج..} [5], وقال تعالى : {إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [6]. أما الحوار, فهو الإطار العام والأوسع مدلولا لكلّ أنواع المناظرات والحوارات والمبادلات الفكرية, وهو الذي يؤطر الجدل بإطار موضوعي, ويهذب من حركته, ويحوّله من حالة العقم المعنوي والتهافت والمهاترات اللفظية, إلى حالة المضمون الثابت. لذا قال تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [7]. وقال تعالى : {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم إله واحد ونحن له مسلمون} [8]. وفقرة (التي هي أحسن) تعني تأطير الجدل بإطار الموضوعية, وإخضاعه للضوابط والشروط التي تنتهي بالمتحاورين إلى نتيجة, لا إلى طريق مسدود كما هو الغالب في حواراتنا في العصر الحاضر. فعندما يريد أحدنا أن يرفض رأيا أو موقفا, أو يقبل رأيا أو فكرة, فلا تتم عملية الرفض أو القبول – غالبا – إلا تحت تأثير الأجواء الإنفعالية, التي يفتقد الإنسان معها طريق الصواب, وتجعله يشكك حتى في أهم المسلمات التي يؤمن بها. إنك ترى الكثير ممن يقع تحت تأثير المجتمع البعيد عن فهم الإسلام, ويتحرك في خط التأليب الإنفعالي, الذي يصف الإسلام – مثلا – بالقسوة والعنف والوحشية, لأنه يأمر بقطع يد السارق, أو الإقتصاص من الجناة والمجرمين, فإنك تراه في ذات الوقت تفرض عليه تلك الأجواء الإنفعالية بشرعية قتل رجل القانون المسلم واستباحة دم من يعارضه بالرأي أو يخالفه في الموقف, وغيرها من القضايا التي لا تقبل الإختلاف, لأنها تندرج ضمن الحرمات الإسلامية العامة التي نصت عليها الشريعة. الثالثة - : إنّ ممّا يشهده عصرنا, أننا لا نجد التكافؤ الفكري في حواراتنا, فيدخل أحدنا الحوار وهو ليس من أصحاب الفكر والرأي. في الوقت الذي لابدّ أن يعرف المحاور كيف ينطلق, ومن أيّة نقطة ينطلق في حركة الحوار, وما هي أسباب الإختلاف بينه وبين خصمه, هل هي عقائدية أم اجتماعية أم سياسية أم غير ذلك من الأسباب التي تمثل المحور الذي يدور حوله الحوار. ثم على المحاور أن يعرف ما هو محل النزاع لو كان الحوار عقائديا, هل هو في وجود الله تعالى, أو في توحيده, أو في بعض صفاته, ثم ما هي النقاط المتفق عليها بين المتحاورين, لتكون مرجعا يرجع إليه المتحاوران, فلا يؤدي بهما الحوار إلى الخلط بين المطلوب وغير المطلوب. أما من يريد أن يدخل دائرة الحوار, وليس لديه معرفة بهذه الأصول وبغيرها من الأصول والقواعد التي عرضها القرآن للحوار, بل ولا بالرأي والفكرة التي يحاور من أجلها, فسوف يخلق جوّا من المهاترات اللفظية والإنفعالات التي يغطي بها على ضعفه وعجزه. وهذا ما تشهده بعض حواراتنا التي تدور عبر الفضائيات, فتظهر من خلالها نماذج تتدخل في أمور ليس من تخصّصها, ولا تعرف أصولها وقواعدها وتفاصيلها, فتراها من خلال ذلك تحكم, وتقرر, وتنقض, وتثبت, وتفتي بما يمليه عليها الضعف والهوى والمزاج الشخصي, وإذا كانت تتخبط من خلال ضبابية في أفكارها وآرائها, فكيف تستطيع أن تكشف الضبابية عن أفكار خصومها ؟؟. لذا يشير القرآن الكريم إلى حالات الجدل الجاهل من قبل تلك النماذج التي ليس لها علم ولا حجّة ولا هدف إلا مخاصمة الرسالة والتكذيب بالحق والتعالي عليه, فقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}. أي : بغير علم ولا معرفة ولا قوّة على إدارة هذه الحركة الحوارية {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [9] وقال تعالى : {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [10]. المصدر : عناصر القوة في شخصية النبي صلى الله عليه وآله / للشيخ عبد الرزاق فرج الله / من البحوث المشاركة في مهرجان ربيع الرسالة الثقافي العالمي السابع . ـــــــــــــــــــــــــــــــ [1]- الكهف : 54 [2]- البقرة : 30 [3]- البقرة : 34 . [4]- النحل : 111 [5]- البقرة : 197 [6]- غافر : 56 [7]- النحل : 125 [8]- العنكبوت : 46 [9]- غافر: 56. [10]- يونس : 39
اترك تعليق