كان بيتُ عليٍ وفاطمة ( عليهما السلام ) أروع نموذج في الصفاء والإخلاص والمودّة والرحمة ، تعاونا فيه بوئامٍ وحنان على إدارة شؤون البيت وإنجاز أعماله . إنّ الزهراء خرّيجة مدرسة الوحي ، وهي تعلم أنّ مكان المرأة من المواقع المهمّة في الإسلام ، وإذا ما تخلّت عنه وسرحت في الميادين الأُخرى عجزت عن القيام بوظائف تربية الأبناء كما ينبغي . لقد كانت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) تبذل قُصارى جهدها لإسعاد أُسرتها ، ولم تستثقل أداء مهام البيت ، رغم كلّ الصعوبات والمشاق ، حتّى أنّ علياً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رقّ لحالها وامتدح صنعها ، وقال لرجلٍ من بني سعد : ( ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة ، إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله ( صلى الله عليه وآله ) إليه ، وإنّها إستقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها ، وطحنت بالرحى حتّى مَجُلت يداها ، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكُنت ثيابها ، فأصابها من ذلك ضررٌ شديد . فقلت لها : لو أتيت أباكِ فسألتيه خادماً يكفيكِ ضرّ ما أنتِ فيه من هذا العمل ، فأتت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فوجدت عنده حدّاثاً فاستحت فانصرفت . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( فَعلم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّها جاءت لحاجة . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( فغدا علينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن في لِفاعنا ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : السلام عليكم ، فقلت : وعليك السلام يا رسول الله أُدخل ، فلم يعد أن يجلس عندنا ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا فاطمة ، ما كانت حاجتك أمس عند محمّد ) ؟ قال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( فخشيت إن لم تجبه أن يقوم ، فقلت : أنا والله أُخبرك يا رسول الله ، إنّها استقت بالقربة حتّى أثّرت في صدرها ، وجرّت بالرحى حتّى مجُلت يداها ، وكَسحَت البيت حتّى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكُنت ثيابها . فقلت لها : لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيك ضرّ ما أنت فيه من هذا العمل ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أفلا أُعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم ، إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين وإحمدا ثلاثاً وثلاثين ، وكبّرا أربعاً وثلاثين) . فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( مَضَيتِ تريدين من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الدنيا ، فأعطانا الله ثواب الآخرة) . وروي أنّه دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على علي ( عليه السلام ) فوجده هو وفاطمة ( عليهما السلام ) يطحنان في الجاروش ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( أيّكما أعيى ) ؟ فقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( فاطمة يا رسول الله) . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( قومي يا بُنية ) ، فقامت وجلس النبي ( صلى الله عليه وآله ) موضعها مع الإمام علي ( عليه السلام ) فواساه في طحن الحبّ . وروي عن جابر الأنصاري أنّه رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاطمة وعليها كساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيديها وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ( يا بنتاه ، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة) . فقالت ( عليها السلام ) : ( يا رسول الله ، الحمد لله على نعمائه ، والشكر لله على آلائهِ ) ، فأنزل الله تعالى ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى )[الضحى : 5] وقال الإمام الصادق ( عليه السلام : ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يحتطِب ويستقي ويكنس ، وكانت فاطمة ( عليها السلام ) تطحن وتعجن وتخبز .( وعن أسماء بنت عُميس عن فاطمة ( عليها السلام ) : [ أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أتى يوماً فقال : أين إبناي ؟ يعني حسناً وحسيناً ، ( فقلت : أصبحنا وليس عندنا في بيتنا شيء يذوقه ذائق . فقال الإمام علي ( عليه السلام ) : اذهب بهما إلى فلان ؟ فتوجّه إليهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فوجدهما يلعبان في مشربة بين أيديهما فضلٌ من تمرٍ ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ، ألا تقلب إبنيّ قبل أن يشتدّ الحرّ عليهما ؟ فقال الإمام علي ( عليه السلام ) : أصبحنا وليس في بيتنا شيء ، فلو جلست يا رسول الله حتّى أجمع لفاطمة تمرات ، فلمّا اجتمع له شيء من التمر جعله في حجره ثمّ عاد إلى البيت] . هذه هي الدنيا في عين فاطمة ( عليها السلام ) مواجهةٌ للمعاناة ، وتألّمٌ من الجوع ، وانهيارٌ من التعب ، ولكن كلّ ذلك يبدو ممزوجاً بحلاوة الصبر وندى الإيثار ، لأنّ وراءه نعيماً لا انتهاء له ، حصة يوم يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب . إنّ إلقاء نظرة فاحصة على حياة الزهراء ( عليها السلام ) توضّح لنا أنّ حياتها الشاقّة لم تتغيّر حتّى بعد أن أصبحت موفورة المال ، في سعة من العيش ـ خصوصاً بعد فتح بني النضير وخيبر وتمليكها فدكاً وغيرها ـ عمّا كانت عليه قبل ذلك رغم غلّتها الوافرة ، إذ روي أنّ فدكاً كان دخلها أربعة وعشرين ألف دينار ، وفي رواية سبعين ألف دينار سنوياً . فالزهراء ( عليها السلام ) لم تعمّر الدور ، ولم تبن القصور ، ولم تلبس الحرير والديباج ، ولم تَقْتَنِ النفائس ، بل كانت تنفق كلّ ذلك على الفقراء والمساكين ، وفي سبيل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام .
اترك تعليق