جاء في الكافي الشريف عن ابي محمد الجواد عليهما السلام انه قال: «والله لا تمضي الأيّام والليالي حتى يرزقني الله ولداً ذكراً يفرّق به بين الحقّ والباطل» (الكافي : 1 / 320) .
ولد الامام الجواد(عليه السلام) في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائة لسبع عشر ليلة مضت من الشهر وقيل : للنصف منه ليلة الجمعة وكانت ولادته في المدينة .
وقال ابوه الامام الرضا عليه السلام عنه بعد ولادته: «هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه» (الكافي : 1/321)، وعاش في ظلّ أبيه (عليه السلام) حوالي سبع سنين.
وبالرغم من السنوات القليلة التي عاشها الامام الجواد عليه السلام ، الا ان مراحل عمره الشريف جعلت في التأريخ راية تنطق بالحق، فقد عاصر الامام ثلاث مراحل في عمره الشريف:
المرحلة الاُولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه الرضا(عليه السلام) حيث ولد سنة (195 هـ ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ واستشهد الإمام الرضا(عليه السلام) في صفر من سنة (203 هـ ) .
المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم المأمون من سنة (203 هـ ) الى سنة (218هـ ).
المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من أيّام حكم المعتصم أي من سنة (218 ـ 220 هـ ).
وإمتاز (عليه السلام) بكونه خليفة الله تعالى في خلقه وإماماً لهم وهو لم يزل حديث السن وقد اجاب عليه السلام على البعض من المشككين الذين اثارت شكوكهم حداثة سنه عليه السلام كما في الروايات التالية:
جاء في الكافي الشريف في كلام لابي جعفر عليه السلام يقول الراوي فيه : رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد خرج عليّ فأخذت أنظر اليه وجعلت انظر الى رأسه ورجليه ، لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك حتى قعد ، فقال : (يا عليّ ! ان الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة ، فقال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز أن يؤتاها وهو ابن الأربعين سنة)( اُصول الكافي : 1 / 315 ).
وعنه عليه السلام في جوابه لاحد الرواة: يا سيدي ان الناس ينكرون عليك حداثة سنك ، فقال : (وما ينكرون من ذلك قول الله عزوجل ، لقد قال الله عزّوجلّ لنبيه (صلى الله عليه وآله): { قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ } فو الله ما تبعه إلاّ علي(عليه السلام) وله تسع سنين وانا ابن تسع سنين) (اُصول الكافي : 1 / 315) .
وتناول التأريخ احداثاً كثيرة عن حياة الامام الجواد عليه السلام سيما علمه وحكمته وسياسته فقد نقل الرواة عنه احاديثا كثيرة من الفقه و الأخلاق و التفسير القرآني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن جده الامام علي عليه السلام، وكان مرجعا للسؤال عند جولان الشبهات في الساحات العلمية والفكرية .
فقد جاء عن الكليني صاحب كتاب اصول الكافي انه قال : (سئل أبو جعفر الثاني (عليه السلام) : يجوز أن يقال لله إنه شيء؟ قال : نعم يُخرجه من الحدَّين، حدّ التعطيل وحد التشبيه)( اُصول الكافي : 1 / 64) .
وجاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق في جواب الامام الجواد عليه السلام لأحد الرواة : (سألت أبا جعفر محمد بن علي الثاني (عليه السلام) : ما معنى الواحد ؟ فقال : المجتمع عليه بجميع الألسن بالوحدانية ) (التوحيد للصدوق / 82 ).
فكان عليه السلام منبعا للعلم وسراجاً للدين ينير للناس طريقهم الى الحق ويهديهم الى ما فيه صلاحهم فسار على خطى آبائه واجداده وتعرض الى مضايقات وتحجيم تقيد تحركاته من قبل الدولة العباسية الحاكمة المتمثلة بالمعتصم الذي اتبع سيرة من سبقوه بالتسلط على رقاب ائمة اهل البيت عليهم السلام واتباعهم باتباع اساليب القمع الوحشية والاقصاء والتهجير.
ان الفترة الزمنية التي قضاها الامام الجواد عليه السلام في خلافة المعتصم ليست بالمدة المديدة, لكنها لا تزيد على السنتين كما تقدم ذكره في اعلاه، والمعروف ان الخوف على المناصب في تلك الفترة استحوذ على قلوب بني العباس فاستشعارهم بالخوف من أئمة اهل البيت ما كان وليد حكم المعتصم بل كانت جذوره تضرب في عمق التاريخ منذ عصر الرسالة.
ومن هنا تحتم على المعتصم العباسي استدعاء الامام الجواد عليه السلام الى بغداد عاصمة الدولة العباسية آنذاك لكون وجود الامام الجواد عليه السلام يشكل خطرا على دولته لما يملكه الامام من قاعدة شعبية للأمة، و ليكون بجواره ويسكن خوفه كل ذلك خشية الانقلاب وانتقال الحكم.
وبعد مجيء الامام صلوات الله عليه الى بغداد، بدأ المعتصم العباسي يبيت لاغتياله وقتله بعد ان سمع بما اشتهر به بين المسلمين من العلم والحنكة في الدين والفقه, فقد روي عن زرقان صاحب ابن أبي دؤاد قاضي المعتصم قوله : ( رجع ابن أبي دؤاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك ، فقال وددت اليوم اني قد مت منذ عشرين سنة ، قال قلت له : ولم ذاك ؟ قال : لما كان من هذا الاسود أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين ، قال : قلت له : وكيف كان ذلك ؟ قال : إن سارقاً اقرّ على نفسه بالسرقة ، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه ، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي فسألناه عن القطع في اي موضع يجب أن يقطع ؟ قال : فقلت : من الكرسوع .
قال : وما الحجة في ذلك ؟ قال : قلت : لأن اليد هي الاصابع والكفّ الى الكرسوع، لقول الله في التيمم { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } واتفق معي ذلك قوم .
وقال آخرون : بل يجب القطع من المرفق ، قال : وما الدليل على ذلك ؟ قالوا : لأن الله لمّا قال: ( وايديكم الى المرافق ) في الغسل دلّ ذلك على ان حدّ اليد هو المرفق .
قال : فالتفت الى محمد بن علي (عليه السلام) فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال : قد تكلم القوم فيه ياأمير المؤمنين ، قال : دعني ممّا تكلموا به ! اي شيء عندك ؟ قال: اعفني عن هذا ياأمير المؤمنين ، قال : اقسمت عليك بالله لمّا اخبرت بما عندك فيه .
فقال : أمّا اذا أقسمت عليّ بالله اني اقول انهم اخطأوا فيه السنّة ، فإن القطع يجب ان يكون من مفصل اُصول الاصابع ، فيترك الكفّ ، قال : وما الحجة في ذلك ؟ قال : قول رسول الله : السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } يعني بهذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) وما كان لله لم يقطع .
قال : فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ .
قال ابن أبي دؤاد : قامت قيامتي وتمنّيت أني لم أك حيّاً .
قال زرقان : قال ابن أبي دؤاد : صرت الى المعتصم بعد ثالثة ، فقلت : ان نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة وانا أكلّمه بما أعلم أني ادخل به النار ، قال : وما هو ؟ قلت : اذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من اُمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك ، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثمّ يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل شطر هذه الأمة بامامته ، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء ؟
قال : فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيراً . قال : فأمر اليوم الرابع فلاناً من وزرائه بأن يدعوه [ اي الجواد(عليه السلام) ] الى منزله فدعاه فأبى ان يجيبه وقال(عليه السلام): قد علمت اني لا أحضر مجالسكم ، فقال : إني انما ادعوك الى الطعام واحبّ ان تطأ ثيابي ، وتدخل منزلي فأتبرّك بذلك ، فقد احبّ فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك، فصار اليه، فلمّا طعم منها أحس السمّ فدعا بدابّته فسأله رب المنزل ان يقيم . قال(عليه السلام) : خروجي من دارك خير لك ، فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفة حتى قبض (عليه السلام) )( بحار الانوار : 50 / 5 ـ 7 .).
وقد روي : ( أنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه . . . فأجابته الى ذلك وجعلت سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه ، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي فقال : ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر ، وبلاء لا ينستر ، فماتت بعلّة في اغمض المواضع من جوارحها ، صارت ناصوراً فانفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة ، حتى احتاجت الى الاسترفاد) (بحار الانوار : 50 / 17).
واستشهد (عليه السلام) سنة ( 220 هـ ) يوم الثلاثاء في آخر ذي القعدة في الخامس والعشرين من عمره المبارك وهو اصغر الائمة عمرا.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.
الكاتب: قيس العامري
اترك تعليق