عن أبي عبدالله -عليه السلام- قال : البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد -صلى الله عليه واله-، وعلي بن الحسين -عليه السلام-، فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية ، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره ، وحتى قيل له : ( تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين )، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا : إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار ، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل ، فصالحهم على واحد منهما, وأما فاطمة -عليها السلام- فبكت على رسول الله -صلى الله عليه وآله- حتى تأذى بها أهل المدينة ، فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ، وكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف ، وأما علي بن الحسين -عليه السلام- فبكى على الحسين -عليه السلام- عشرين سنة أو أربعين سنة ، ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له : جعلت فداك ، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين ، قال : « إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله مالا تعلمون » إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة(1).
نبين الرواية الشريفة في أمرين:
الاول: في اصل البكاء وهو امر فطري بشري, وله اقسام وعدها بعضٌ تسعة ولها صفات واثار وفوائد عديدة كما لا يخفى, والذي يهمنا منها هاهنا هو بكاء الحزن, ودمعته تكون حارة ويكون القلب حزين, واصل هذا البكاء هو من شدة الحزن والاخير من الحب لان الحزن لا يكون الا لفقد محبوب, فإذن هو ليس أمراً اختيارياً لانه نتيجة ناشئة من أمر قلبي عاطفي وهو الحب.
الثاني: في بكاء الامام زين العابدين عليه السلام كما ورد في الرواية الشريفة اعلاه:
أ- (البكاؤون خمسة) وبكاؤون جمع بَكَّاء اي كثرة البكاء, وحصر البكائين بالخمسة (آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله وعلي بن الحسين عليه السلام) أي بمعنى أكثر البشر بكاءً, ولعل حصر العدد بالخمسة هو الى زمن صاحب الرواية عليه السلام لأنه يحتمل كثيرا أن يكون البَكَّاء السادس هو الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف لقوله (لأندبنك صباحا ومساء ولأبكين عليك بدل الدموع دما) فمئات السنين من البكاء اليومي المستمر تحتم أن يكون البَكَّاء السادس.
ب- الباكي هو امام معصوم والمبكي عليه إمام معصوم واهل بيته (وأما علي بن الحسين -عليه السلام- فبكى على الحسين -عليه السلام- عشرين سنة أو أربعين سنة) والظاهر ان التردد في السنين هو من الراوي لانه في رواية اخرى عن الصادق عليه السلام ان زين العابدين بكى على أبيه اربعين سنة .... ويستفاد من هذه الرواية كما هو المعروف في الاصول في دلالة فعل المعصوم -اذا تكرر بإستمرار- على الاستحباب.
ج- سبب البكاء هو ما جرى في واقعة كربلاء كما هو قوله عليه السلام (إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة) وفي رواية أخرى عن بعض مواليه قال : خرج يوما إلى الصحراء فتبعته ... ، فقلت : يا سيدي ، ما آن لحزنك أن ينقضي ؟! ولبكائك أن يقل ؟! فقال لي : ويحك ، إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيا ابن نبي ، وكان له اثنا عشر ابناً ، فغيب الله واحدا منهم ، فشاب رأسه من الحزن ، وأحدودب ظهره من الغم والهم ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حي في دار الدنيا ، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويذهب بكائي ؟! (2).
د- كيفية البكاء كانت عجيبة فـ(ما وضع بين يديه طعام إلا بكى) وفي رواية اخرى عن الصادق-عليه السلام-، (أن زين العابدين بكى على أبيه أربعين سنة ، صائما نهاره ، قائماً ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله -صلى الله عليه وآله- جائعا ، قتل ابن رسول الله عطشانا ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه بدموعه ، ويمزج شرابه بدموعه ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل)(3). وفي رواية سبقت اكثر عجباً انه عليه السلام حتى في عبادته يبكي على الحسين عليه السلام فـ(عن بعض مواليه قال : خرج يوما إلى الصحراء فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه ، وأحصيت له الف مرة وهو يقول : لا إله إلا الله حقا حقا ، لا إله إلا الله تعبدا ورقا ، لا إله إلا الله إيمانا وصدقا ، ثم رفع رأسه من سجوده ، وأن لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه ، فقلت : يا سيدي ، ما آن لحزنك أن ينقضي ؟! ولبكائك أن يقل ؟!....) الى اخر الرواية(4), ففي هذه الرواية ابعاد فقهية وعقائدية تتلخص بأن الحزن على الحسين عليه السلام استثناء مطلق.
هـ - دلالات هذا البكاء, أولها هي شدة حب الامام زين العابدين لأبيه عليهما السلام لما علمنا ان البكاء من الحزن والاخير من الحب, واستحباب البكاء على الامام الحسين بل مطلق الحزن كما علمنا أن البكاء ما هوإلا نتيجة لشدة الحزن, وأن الحزن على الامام الحسين عليه السلام استثناء مطلق, فلو عوتبنا على حزننا على الحسين عليه السلام نقول كما قال زين العابدين عليه السلام في الرواية اعلاه (حتى قال له مولى له : جعلت فداك ، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين ، قال : « إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله مالا تعلمون ») فلا زالوا اليوم يقولون لنا يحتمل أن يؤدي حزنكم الى التهلكة فجوابنا هو إنما نشكوا بثنا وحزننا إلى الله ونعلم من اهل البيت عليهم السلام ما لا تعلمون.
الكاتب: ابراهيم السنجري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]- وسائل الشيعة ج19 ص282
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4-المصدر السابق
اترك تعليق