فاجعة كربلاء لا يدركها حقا إلا اهل البيت (عليهم السلام)

في العاشر من محرم الحرام عام 61 هجرية حدثت واقعة كربلاء الاليمة حيث نكثت تلك الامة مواثيقها وعهودها المقطوعة التي اخذتها على نفسها بدعوتها للإمام الحسين (عليه السلام) بالقدوم الى الكوفة ، وانهم سوف يكونون جنودا مجنده وسيوفا قاطعة ،  الا انهم سرعان ما تخاذلوا ،  حينما استولى عبيد الله بن زياد (عليه اللعنة) تقاليد الحكم في الكوفة ، انقلبوا على اعاقبهم كانقلاب اسيادهم في معركة احد حين تركوا الرسول (صلى الله عليه وآله ) في المعركة لاهثين وراء الغنائم الفاسدة .

 قال الإمام الحسين (عليه السلام) مخاطبا اولئك في كربلاء : ( تبا لكم ايتها الجماعة وترحا، أفحين استصرختمونا ولهين متحيّرين فأصرختكم مؤدّين مستعدّين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نار الفتن خباها عدوّكم وعدوّنا  فأصبحتم إلباً على اوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم ، بغير عدل افشوه فيكم ، ولا أمل اصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدّنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه من غير حدث كان منّا ولا أري تفبل لنا فهلاّ ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتمونا وتركتمونا تجهّزتموها والسيف لم يشهر ، والجأش طامن ... ) بحار الانوار : ج 45 ص10 .

 مصاب الحسين اقرح الجفون :

 روى الامام الرضا (عليه السلام) في قضية الامام الحسين (عليه السلام) رواية تشير الى تلك الواقعة التي فجع بها النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) واهل بيته الاطهار ، والتي عبر عنها (عليه السلام) بقوله : ( ان يوم الحسين اقرح جفوننا واسبل دموعنا واذل عزيزنا ... ) أمالي الصدوق : المجلس 37 ، الحديث : 2 .

 ان هذه الكلمات النورانية تعبر عن عظم المأساة التي لحقت بأهل بيت النبوة ، فما اعظمها من كلمة صادقة (اقرح جفوننا) ، نعم سيدي قد اقرح جفوننا ، بعد ان كانت تلك العيون تربوا لقدومه (عليه السلام) ليقم العدل وينشر الفضل والفضيلة في صفوف هذه الامة وفي ارض العراق ، إلا ان هذه الامة لم تكن موفقة باحتضان سيد شباب اهل الجنة .

 ومن هذه الامة الخاسرة ظهرت الاعتراضات والشكوك بثواب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) فكانت عائشة اول من شككت واستكثرت ذلك ، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله : ( كان الحسين بن علي ذات يوم في حجر النبي يلاعبه ويضاحكه .

 فقالت عائشة : يا رسول الله ما اشد اعجابك بهذا الصبي ؟

فقال لها : ويلك وكيف لا أحبّه ولا أعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرّة عيني ؟ أما إن أمتي ستقتله . فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجة من حججي .

إلا ان عائشة هنا استكثرت ذلك وتعجبت !

 قالت : يا رسول الله حجة من حججك ؟!

قال : نعم حجتين من حججي .

 قالت : يا رسول الله حجتين من حججك ؟!

 قال : نعم وأربعة .

 قال : فلم تزل تزادّه ويزيد ويضعف حتى بلغ تسعين حجة من حجج رسول الله بأعمارها ) الكامل في الزيارات : ب22 ص68 ح1 . ومسير عائشة يظهر في كل زمن اعتراض على مواساة تلك المصائب ، لكن هذه الاعتراضات لم تورث صاحبها إلا الخبث واللائمة ، لأن الله تعالى وعد بنصرة الحسين (عليه السلام) بعد استشهاده .

 قالت زينب (عليها السلام) لأبن اخيها السجاد (عليه السلام) لما وجدته بتلك الحال بعد مصرع ابيه (عليه السلام) وإخوته : ( ... لا يجزعنك ما ترى ، فو الله ان ذلك لعهد من رسول الله الى جدّك وابيك وعمّك ، ولقد اخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الاعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلا ظهورا وأمره إلا علوّا ) كامل الزيارات : ب 88 ص 262 ح1 .

 لكن الخبث الاموي يبقى في دماء الامويين بصورة استفهامات واشكالات للتقليل من عظمة هذا المصاب الجلل ، ومن هذه الاعتراضات الواردة على النصوص الصادرة من أئمة اهل البيت (عليهم السلام) بخصوص بيان ثقل المصاب واثره على الحواس الخارجية ، قول الإمام الرضا (عليه السلام) : ( ان يوم الحسين اقرح جفوننا ... ) فتساءلوا كيف يحصل ذلك ؟ متغافلين اللحاظ الطبي لمن له معرفة في ذلك ، فان اجفان العين ارقّ المواضع الظاهرية لبدن الإنسان ، ومن البديهي ان الشيء كلما كان رقيقا كان اكثر عرضة للإصابة بالأذى والضرر .

 يقول الاطباء : حينما يحزن القلب ويتأثر من شدّة المصاب تقوم الغدد الموجودة خلف العين بتبديل الدم الى دمع مالح ، وكلما ازداد المرء حزنا ازداد الضغط على القلب ، عند ذلك يزداد الضغط على هذه الغدد فتضعف ولا تعود قادرة على تبديل الدم الى دمع ، فيخرج في هذه الحالة الدم من العين بدل الدموع ، ومن الواضح ان الدمع مالح وعند تكرر ملامسته للجفن يجرحه . ولهذه الحقيقة اشار اليها الإمام صاحب العصر والزمان (عليه السلام ، وعجل الله تعالى فرجه الشريف) في زيارته للإمام الحسين (عليه السلام) : (فلأندبنك صباحا ومساء ولأبكينّ عليك بدل الدموع دما) . مقطع من زيارة الناحية .

ان النص الصادر عن الإمام الرضا (عليه السلام) يظهر عمق فاجعة كربلاء التي لا يدرك مأساتها إلا هم أهل البيت (عليهم السلام) وادراك الناس لهذه الواقعة وفهمهم لها نسبيا وناقصا . ولذلك نرى الواقعة حاضرة أمام كل إمام في زمانه وهي نصب عينه دائما ، لأنهم (عليهم السلام) يفهمون عمق ما جرى في كربلاء كما ينبغي . ان المتبصر في هذا المقطع من قول الإمام الرضا (عليه السلام) ، ( ان يوم الحسين اقرح جفوننا واسبل دموعنا واذل عزيزنا ) يجد ان كلام الإمام (عليه السلام) عام وليس خاص في ايام عاشوراء من شهر محرم ، فحزنهم دائم وجفونهم مقروحة لكثرة بكائهم على مصاب ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) . فقضية الإمام الحسين (عليه السلام) قضية عظمى لا يمكن تجاهلها في أي محفل يمكن اثارتها ، وكشف تلك المظلومية وما حدث بأبن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هتك لحرمته وحرمة عياله واصحابه وابنائه وابناء عمومته . لقد تجاهلت هذه الامة واقعة كربلاء وتناست تلك المصاب الذي عبر عنه بألم وحرقة الإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو الإمام المعصوم : ( لما اصابنا بالطف ما اصابنا وقتل ابي وقتل من كان معه من ولده واخوته وسائر اهله، وحملت حرمه ونساؤه على الاقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلتُ انظر اليهم صرعى ولم يواروا ، فعظم ذلك في صدري واشتد لما ارى منهم قلقي فكادت نفسي تخرج وتبينتْ ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (عليه السلام) ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وابي واخوتي ؟ فقلت : كيف لا اجزع واهلع وقد ارى سيدي واخوتي وعمومتي وولد عمي واهلي مصرّعين بدمائهم مرملين بالعراء مسلوبين لا يكفنون ولا يوارون ولا يعرج عليهم احد ولا يقربهم بشر ، كأنهم اهل بيت من الديلم والخزر ... ) . كامل الزيارات : ب88 ص 262 ح1 .

 وعلى ضوء ذلك لا يمكن مواجهة قضية الإمام الحسين (عليه السلام) او التقليل منها ومن عظمتها لان الله وعد بان يبقى ذكر الحسين شامخا وخالدا في قلوب المؤمنين والمحبين مهما جهد الاعداء في محوه او تطميسه . ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .

 الحسين (عليه السلام) استثناء وقضيته استثناء :

 فقد ورد في الصحاح الستة لدى اهل العامة رغم اخفاء ذكره ومكانته وفضائله الا ان الحقيقة لا يمكن اخفائها ، والشمس لا يغطيها الغربال ، فقد نقلوا عن نجي الحضرمي انه سار مع علي (عليه السلام) وكان صاحب مطهرته ، فلما حاذى نينوى وهو منطلق الى صفين .

 نادى : صبرا أبا عبد الله صبرا أبا عبد الله .

 قلت : ماذا أبا عبد الله ؟

قال : دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم وعيناه تفيضان .

 قلت : يا نبي الله ما لعينك تفيضان ؟

 أغضبك أحد ؟

 قال : بل قام من عندي جبرئيل قبل فحدثني ان الحسين يُقتل بشاطئ الفرات . فقال لي : هل لك الى ان اشمّك من تربته ؟

 قلت نعم . فمدّ يده فقبض من تراب فأعطانيها ، فلم املك عيني ان فاضتا ) مسند احمد بن حنبل : ج 1 ص 85 ، مسند ابي يعلي : ج 1 ص 298 ح363 ، المعجم الكبير للطبراني : ج3 ص 105 ح 2811 .

يقول احد العلماء وهو يتبصر في هذا الحديث ، ولا يخفى ان قصة مرور الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) على كربلاء في طريقه الى صفين تعود الى ما قبل عشرين سنة من احداث كربلاء ، وان عبارة (عينيك تفيضان) تختلف عن عبارة (تبكي) مثلا ، لأن الإناء لا تفيض إلا بعد ان يمتلئ فبعد ان يمتلئ ويزداد يفيض الماء من جوانبه ، فهذه الحالة يطلق عليها ـ في العربية ـ الفيضان ، وكذلك تطلق هذه الكلمة عندما تطغى الانهار ويجري السيل . اما في حالة البكاء العادية فلا يقال : ان فلانا عيناه تفيضان بالدموع .

وهذا يدلل على مدى حزن وتألم النبي (صلى الله عليه وآله) لمصاب حفيده الإمام الحسين (عليه السلام) .

لذلك ينبغي التأمل في عبارة الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) (تفيضان) علما ان اهل البيت (عليهم السلام) هم امراء الكلام . وقد روى معاوية بن رحب عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال لي الإمام الصادق (عليه السلام) : ( يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين (عليه السلام) لخوف ، فإن من ترك زيارته رأى من الحسرة ما يتمنى ان قبره كان عنده ) كامل الزيارات : ب40 ص116 . فقضية الإمام الحسين (عليه السلام) قضية استثنائية ، لأن الله تعالى قد تعامل معها بصورة استثنائية ، فيجب على الإنسان المسلم ان يتعامل مع قضايا الإمام (عليه السلام) وشعائره بصورة استثنائية ، وان لا يكون سلبيا ، بل ايجابيا في التعامل مع جميع القضايا الحسينية ، بمعنى ان لا يقول لا تفعلوا هذا ، ولا تفعلوا ذاك ، بل يجب التعامل معها بحجم المصاب الذي لا يدركه في الواقع إلا الإمام المعصوم (عليه السلام) ، فلأندبنك صباحا ومساء ولأبكينّ عليك بدل الدموع دما .

 

الكاتب: السيد زكي الموسوي