انقلاب اسلوب الاختبار والمناظرة من قبل الحكام لصالح أهل البيت عليهم السلام

قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فإن الله تعالى قد رزق نبيه محمد واهل بيته عليه وعليهم السلام مختلف العلوم وما يحتاج اليه الناس ومافيه رقيهم وصلاحهم وسموهم الى المستوى الّائق بالانسانية وقد أصبح لأهل البيت عليهم السلام المكانة الرفيعة في الساحة العلمية ولذا فان الحكام والجبابرة الذين حكموا في حياة ائمة اهل البيت عليهم السلام كالحكام العباسيين كانوا يحاولون اسقاط تلك الرتبة العلمية السامية لأئمة اهل البيت عليهم السلام من خلال إجراء إسلوب المناظرات و الاختبارات آملين بذلك تحقيق مآربهم في إزالة اهل البيت عليهم السلام من الساحة العلمية ومكانتهم الراسخة على جميع مدعي العلم والفكر ، ولكن هذا الاسلوب من المحاولات اليائسة انقلب على أؤلئك الحكام ولم يزد مكانة ائمة اهل البيت عليهم السلام العلمية الّا رفعة وعلوا وسموا ، وإن من خير النماذج على الاختبارت هو الاختبار الذي أجراه ابن الأكثم في عصر المتوكل لموسى بن الامام محمد الجواد بن الامام علي الرضا عليهما السلام والذي كان يقصد به اخيه الامام علي الهادي عليه السلام حيث روي عن موسى بن محمد بن الرضا(1) قال : لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة فسألني عن مسائل ، فجئت إلى أخي علي بن محمد (عليهما السلام) فدار بيني وبينه من المواعظ ما حملني وبصرني طاعته ، فقلت له : جعلت فداك إنّ ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها ، فضحك(عليه السلام) ثم قال: وما هي؟ قلت : كتب يسألني عن قول الله : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ... ) نبي الله كان محتاجاً إلى علم آصف.

وعن قوله : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا...) سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟

وعن قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ) من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب النبي (صلى الله عليه وآله) فقد شكّ ، وان كان المخاطب غيره، فعلى من إذن انزل الكتاب .

وعن قوله : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ما هذه الأبحر؟ وأين هي ؟

وعن قوله : (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فاشتهت نفس آدم(عليه السلام) أكل البر فأكل واطعم وفيها ما تشتهي الأنفس ، فكيف عوقب ؟

وعن قوله (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) يزوج الله عباده الذكران وقد عوقب قوم فعلوا ذلك؟ ، وعن شهادة المرأة جازت وحدها وقد قال الله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ؟، وعن الخنثى، وقول علي (عليه السلام) : يورث من المبال، فمن ينظر ـ إذا بال ـ إليه؟ مع أ نّه عسى أن يكون امرأة وقد نظر إليها الرجال ، أو عسى أن يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء ، وهذا ما لا يحل .

 وشهادة الجارّ إلى نفسه لا تقبل، وعن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي ينزو على شاة منها فلما بصر بصاحبها خلّى سبيلها ، فدخلت بين الغنم كيف تذبح؟ وهل يجوز أكلها أم لا؟ ، وعن صلاة الفجر لِمَ يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار؟ وإنّما يجهر في صلاة الليل، وعن قول علي (عليه السلام) لابن جرموز : بشّر قاتل ابن صفية بالنار، فلِمَ لم يقتله وهو إمام؟! ، وأخبرني عن علي (عليه السلام) لم قتل أهل صفين وأمر بذلك مقبلين ومدبرين وأجاز على الجرحى ؟ ، وكان حكمه يوم الجمل انه لم يقتل مولّياً ولم يجهز على جريح ولم يأمر بذلك ، وقال من دخل داره فهو آمن ، ومن القى سلاحه فهو آمن. لِمَ فعل ذلك؟ فإن كان الحكم الأول صواباً فالثاني خطأ . وأخبرني عن رجل أقر باللواط على نفسه أيحد أم يدرأ عنه الحد؟.

فقال (عليه السلام) : اكتب إليه: قلت : وما اكتب؟ قال (عليه السلام) : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأنت فألهمك الله الرشد، أتاني كتابك فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلى الطعن سبيلاً إن قصرنا فيها والله يكافيك على نيتك ، وقد شرحنا مسائلك فاصغ إليها سمعك وذلل لها فهمك ، واشغل بها قلبك ، فقد لزمتك الحجة والسلام. سألت عن قول الله عزوجل : ( قال الذي عنده علم من الكتاب ) فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز سليمان (عليه السلام) عن معرفة ما عرف آصف لكنه صلوات الله عليه أحب أن يعرّف اُمته من الجن والانس انه الحجة من بعده ، وذلك من علم سليمان (عليه السلام) أودعه عند آصف بأمر الله ، ففهّمه ذلك لئلا يختلف عليه في امامته ودلالته ، كما فهّم سليمان(عليه السلام) في حياة داود (عليه السلام) لتعرف نبوته وامامته من بعد لتأكد الحجة على الخلق.

وأما سجود يعقوب (عليه السلام) وولده كان طاعة لله ومحبة ليوسف (عليه السلام) ، كما أن السجود من الملائكة لآدم (عليه السلام) لم يكن لآدم (عليه السلام) وانما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم (عليه السلام) ، فسجود يعقوب وولده ويوسف(عليه السلام) معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم ، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ـ الى آخر الآية ـ ) .

وأما قوله : ( فإن كنت في شكّ مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب ).

فإنّ المخاطب به رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يكن في شكّ مما انزل إليه ولكن قالت الجهلة كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق؟! فأوحى الله إلى نبيه ، ( فسئل الذين يقرءون الكتاب )بمحضر الجهلة ، هل بعث الله رسولاً قبلك إلاّ هو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم اُسوة ، وإنّما قال: فإن كنت في شكّ ولم يكن شكّ ولكن للمنفعة كما قال: (تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).

ولو قال (عليكم) لم يجيبوا إلى المباهلة ، وقد علم الله ان نبيه يؤدي عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، فكذلك عرف النبي انه صادق فيما يقول ولكن أحب ان ينصف من نفسه .

وأما قوله : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) . فهو كذلك لو أن اشجار الدنيا أقلام والبحر يمدّه سبعة أبحر وانفجرت الارض عيوناً لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله وهي عين الكبريت وعين التمر وعين الــ (برهوت) وعين طبرية وحمّة ماسبندان وحمّة افريقية يدعى لسان وعين بحرون ، ونحن كلمات الله لا تنفد ولا تدرك فضائلنا .

وأما الجنة فإن فيها من المآكل والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأباح الله ذلك كلّه لآدم(عليه السلام) والشجرة التي نهى الله عنها آدم(عليه السلام) وزوجته ان يأكلا منها شجرة الحسد عهد إليهما ان لا ينظرا إلى من فضّل الله على خلائقه بعين الحسد فنسي ونظر بعين الحسد ولم يجد له عزما .

وأما قوله : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي يولد له ذكور ويولد له اناث يقال لكل اثنين مقرنين زوجان كل واحد منهما زوج ، ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبّست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم ، (...وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (*) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) إن لم يتب .

وأما شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي القابلة جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم يكن رضاً فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة ، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها.

وأما قول علي (عليه السلام) في الخنثى فهي كما قال : ينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة وتقوم الخنثى خلفهم عريانة وينظرون في المرايا فيرون الشبح فيحكمون عليه .

وأمّا الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة فإن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر ، ثم يفرق النصف الآخر فلا يزال كذلك حتى تبقى شاتان فيقرع بينهما فأيتها وقع السهم بها ذبحت واحرقت ونجا سائر الغنم.

وأما صلاة الفجر فالجهر فيها بالقراءة ، لأن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يغلس بها فقراءتها من الليل .

وأما قول علي (عليه السلام) : بشّر قاتل ابن صفية بالنار فهو لقول رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكان ممن خرج يوم النهروان فلم يقتله أمير المؤمنين(عليه السلام) بالبصرة لأنه علم أنه يقتل في فتنة نهروان .

وأما قولك : ان علياً(عليه السلام) قتل أهل صفين مُقبلين ومُدبرين وأجاز على جريحهم وانه يوم الجمل لم يتبع مولياً ولم يجهز على جريح ومن ألقى سلاحه آمنه ومن دخل داره آمنه ، فإن أهل الجمل قتل امامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها وانما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا متنابذين رضوا بالكف عنهم فكان الحكم فيها رفع السيف عنهم والكف عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليه اعواناً.

وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وامام يجمع لهم السلاح: الدروع والرماح والسيوف ويسني لهم العطاء ، يهيء لهم الأنزال ويعود مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم فلم يساوِ بين الفريقين في الحكم لما عرف من الحكم في قتل اهل التوحيد لكنه شرح ذلك لهم ، فمن رغب عرض على السيف أو يتوب من ذلك .

وأما الرجل الذي اعترف باللواط فإنه لم تقم عليه بينة وإنّما تطوع بالاقرار من نفسه وإذا كان للإمام الذي من الله ان يعاقب عن الله كان له أن يمنّ عن الله ، أما ما سمعت قول الله : ( هذا عطاؤنا ) ، قد انبأناك بجميع ما سألتنا عنه فاعلم ذلك (2) .

وإذن بحسب هذه الرواية يتبين ان الاسئلة الكثيرة التي تم توجيهها من قبل ابن الأكثم كانت منتقاة ومختارة بإحكام وتأمل عدم القدرة على الاجابة ولكن العلوم التي كانت في صدر الامام علي الهادي عليه السلام جعلت التحدي لصالح الامام عليه السلام وأبطل كل التحديات في الساحة العلمية التي كان يفتعلها وعّاظ السلاطين وعلماء البلاط الذين ترعاهم الدولة العباسية واعتادوا على لعق قصاعها والهناء في ضل رعاية حكامها، ولهذا افادت الرواية ذاتها بأن ابن الأكثم قال للمتوكل بعد ما قرأ هذه الأجوبة: ما نحب أن نسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وانّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة(3).

وبهذا يكون ائمة اهل البيت عليهم السلام لا نظير لهم في الساحة العلمية وانهم لا يزدادون بالمناظرات والاختبارات الا رفعة وسموا.

الكاتب : مهند آل حسين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هو اخو الامام علي الهادي عليه السلام.

(2) تحف العقول : 352 .

(3) المناقب: 3/443 .

المرفقات