أياك والكوفة..شبّت بها لهاة المشفقين على الحسين ( عليه السلام ) في الطريق كما شبت قلوبهم لرواحه فقلوب الكوفيين وسيوفهم لن تظل في خندق واحد ،والحسين ( عليه السلام ) أولى من أولئك المشفقين أن يحيط بهذا، ولكنه ذهب ثم لم يعدل عن طريقه في زرود وقد جاءه نبأ مسلم ( عليه السلام ) .
زرود... كأني بها النقطة التي بدأ الناس فيها يرون الحسين (عليه السلام ) وقد طار الى انتماءه السماوي.. لأبعاده المطلقة ، ومنها يحرك مجريات ثورته, فيكون للأحداث خط سماوي هو المثال وآخر على الارض.
لهذا كانت الطف حدثا انسانيا لايتكرر.. للمساحة الشاسعة في أبعادها ومجرياتها وأهدافها. كان الحسين ( عليه السلام ) يطل فيها من إنتماءه السماوي على الارض لينتقي منها مايلائم حركته الفوقية خالصة النقاء، يمحّصه خشية العوالق التي تشوب المثال. فجمع أصحابه ليلة العاشر بين يديه وحمد الله وأثنى عليه وقال: اللهم لك الحمد على مابه فضّلتنا وعلمتنا من القرآن وفهمّتنا في الدين وأكرمتنا به من كرامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعلت لنا أسماعا وأفئدة وجعلتنا من الشاكرين، ثم أقبل عليهم وقال: إني لاأعلم أصحابا أصح منكم ولاأعدل، ولاأفضل أهل بيت، فجزاكم الله عني خيرا هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا وليأخذ كل واحد منكم بيد صاحبه أو رجل من أخوتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يطلبون غيري ولو أصابوني وقدروا عليّ لما طلبوكم.
وألتفتت اليه أخته العقيلة في ذات الليلة قائلة: هل أستعلمت من أصحابك نياتهم ؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة وأصطكاك الأسنة فأجابها: أما والله لقد لهزتهم وبلوتهم وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بلبن أمه .... خط سماوي هو المثال وآخر على الارض.... الأول يفسر الآخر ويحوّل الهزيمة الى نصر والبشاعة الى جمال، وضوح النتيجة التي كانت ستنتهي اليها انتفاضة الكوفيين أرادها الحسين ( عليه السلام ) دلالة واضحة على نقاء حركته من كل مأرب شخصي ،وفرصة لا تعوّض في تجسيد بسالة وثبات وشجاعة لم تعرف الارض أمثالها.
وفي يوم الاحد السابع والعشرين من ذي الحجة وصل الامام الحسين (عليه السلام) منزل ذو الحسم وضرب أبنيته وأنزل عائلته ،وماأسرع ماطلعت عليهم هوادي الخيل فتبينوها وعدلوا فلما رأوهم عدلوا اليهم ،وكانوا زهاء الألف فارس مع رئيسهم الحر بن يزيد الرياحي وكان قد أرسله عبيد الله بن زياد من الكوفة ليحبس الحسين ( عليه السلام ) عن الرجوع الى المدينة ويقدم به الكوفة.
فلما رأى الحسين ( عليه السلام ) ما بالقوم من عطش أمر فتيانه أن يسقوا القوم ويرشّفوا الخيل ترشيفا ، ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع من الماء ثم يدنونها من الفرس، فأذا عب فيها ثلاثا أوأربعا أوخمسا عُزلت عنه وسُقي الآخر حتى سقوهم وخيولهم عن آخرهم.
قال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر - يومئذ - فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين ( عليه السلام ) مابي وبفرسي من العطش. قال انخ الراوية ،والراوية عندنا السقاء فلم أدر مايقول ؟ ثم قال يابن الأخ ،أنخ الجمل فأنخته ،فقال اشرب. فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسين ( عليه السلام ) : أخنث السقاء – أي اعطفه - فلم أدر كيف أفعل .
فقام الحسين ( عليه السلام ) بنفسه فخنثه ،فشربت وسقيت فرسي. وفي يوم الاربعاء الاول من شهر محرم الحرام سنة إحدى وستين للهجرة وصل الحسين ( عليه السلام ) الى قصر بني مقاتل وفيه رأى فسطاطا مضروبا ورمحا مركوزا وفرسا واقفا. فقال ( عليه السلام ) لمن هذا الفسطاط ؟ فقيل هو لعبيد الله بن الحر الجعفي
فبعث اليه الحجاج بن مسروق الجعفي فسأله عبيد الله عما جاء به ؟
فقال : ـ هدية اليك وكرامة، إن قبلتها هذا الحسين بن علي ( عليه السلام ) يدعوك الى نصرته فإن قاتلت بين يديه أجرت وإن قتلت استشهدت.
فقال عبد الله - إنالله وإنا اليه راجعون والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهة أن يدخلها الحسين ( عليه السلام ) وأنا فيها لكثرة من رأيته خارجا لمحاربته وخذلان شيعته. فعلمت أنه مقتول ولاأقدر على نصره والله ما اريد ان أراه ولايراني.
فأعاد الحجاج كلامه على الحسين ( عليه السلام ) فقام بنفسه ومشى اليه في جماعة من أهل بيته وصحبه فدخل عليه الفسطاط ، فوسع له ابن الحر عن صدر المجلس. يقول بن الحر مارأيت أحدا قط أحسن من الحسين ( عليه السلام ) ولاأملأ للعين منه، ولارققت على أحد رقتي عليه، حين رأيته يمشي وصبيانه حوله ونظرت الى لحيته فرأيتها كأنها جناح غراب فقلت له : أسواد أم خضاب ؟ قال: يابن الحر قد سبقني الشيب فعلمت أنه خضاب.
ولما استقر به المجلس بابي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) حمد الله وأثنى عليه ،ثم قال:-يابن الحر إن أهل مصركم هذا قد كتبوا الي : انهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم وليس الأمر على مازعموا وإن عليك ذنوبا كثيرة فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك قال ابن الحر: وماهي يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
قال ( عليه السلام ): - تنصر ابن بنت نبيك وتقاتل معه
فأجابه ابن الحر:- والله ،اني لأعلم من شايعك كان السعيد في الآخرة ولكن ما عسى أغني عنك ولم أخلف لك بالكوفة ناصرا، فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة فإن نفسي لاتسمح لي بالموت، ولكن فرسي هذه فاركبها فوالله ماطلبت عليها أحد إلاسبقته، فخذها حتى تلحق بمأمنك وأنا لك بالعيالات حتى أردها اليك.
فقال له الحسين ( عليه السلام ):- أما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا في فرسك ولافيك( وماكنت متخذ المضلين عضدا) ولكن فرّ فلا لنا ولاعلينا فوالله لايسمع واعيتنا أحد ثم لاينصرنا الاأكبه الله على وجهه في نار جهنم.
ولما طلع الفجر نزل الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه فصلى بهم صلاة الغداة ثم عجّل في الركوب وأخذ يتياسر والحر يسايره ويحاول ردّه الى الكوفة والحسين ( عليه السلام ) يمتنع عليه امتناعا شديدا فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتى انتهوا الى نينوى فإذا راكب على نجيب له وعليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة فوقفوا جميعا ينتظرونه فلما أنتهى اليهم عرفوه فإذا هو مالك بن النسر الكندي جاء وسلم على الحر وأصحابه ولم يسلم على الحسين ( عليه السلام ) ودفع الى الحر كتابا من عبيد الله بن زياد جاء فيه (أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي ولاتنزله إلا بالعراء في غير خضرة ولا ماء ،وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولايفارقك حتى يأتيني بأنفاذك أمري والسلام).
فقرأ الحرّ الكتاب على الحسين ( عليه السلام ) ومن معه فقالوا:- دعنا ننزل نينوى أو الغاضريات
فقال:- لاأستطيع إن الرجل عين عليّ فالتفت زهير بن القين الى الحسين ( عليه السلام ) وقال:- يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم( ،إن قتال هؤلاء -الساعة - أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ،فلعمري ليأتينا من لاقبل لنا به
فقال الحسين ( عليه السلام ): ماكنت لأبدأهم بقتال..
الكاتب / الشيخ صلاح الخاقاني
اترك تعليق