المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد هي(التوحيد في الخالقية) بمعنى أنّه لا خالق إلّا الله ، وأنّ الوجود برمته مخلوقُه، وقد أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة إذ قال: (قُلِ اللهُ خالقُ كلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ)(1) ،( ذلكمُ اللهُ رَبُّكُم خالقُ كلِّ شَيءٍ لا إلهَ إلاّ هُوَ)(2) وليس الوحي وحده يثبت ذلك بل يقول به العقل ويؤكّده ؛ لأنّ كل ما سوى الله ممكنٌ محتاجٌ، وترتفع حاجته ويتحقّق وجوده من جانب الله.إنّ التوحيد في الخالقية لا يعني نفي أصل السببيّة والعليّة في عالم الوجود؛ لأنّ تأثيرَ كلِّ ظاهرة مادّية في مثلها منوطٌ بإذن الله، ووجود السبب وسَبَبيّته كلاهما من مظاهر المشيئة الإلهية، فالله سبحانه هو الذي أعطى النور، والضوء للشمس والقمر، وإذا أراد سَلْبَه عنهما فعل ذلك دون مانع ومنازع، ولهذا كان الخالق الوحيد بلا ثانٍ وقد أيّد القرآن الكريم -كما أسلفنا في الأصل الثامن - قانون العليّة ونظام السببية في الكون كما قال الله: (يُرسلُ الرياحَ فتثيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَماءِ كيفَ يَشاء)(3) فقد صَرَّحَتِ الآيةُ المذكورة بتأثير الرياح في تحريك السحابِ وسَوْقها.
إنّ تعمِيم خالقيّة الله على جميع الظواهر الطبيعيّة لايستلزم أبداً أن ننسب أفعال البشر القبيحة إلى الله تعالى؛ لأنّ كل ظاهرة من الظواهرالكونية لكونها كائناً إمكانياً وإن كان مستحيلاً أن ترتدي ثوب الوجود من دون الاستناد إلى القدرة ، والإرادة الإلهيّة الكلية ولكن في مجال الإنسان يجب أن نضيف إلى ذلك أنّ الإنسان لكونهِ كائناً مختاراً، وموجوداً ذا إرادة، فهو يفعلُ أو يترك بإرادته واختيارِهِ بحكم التقدير الإلهيّ أي إنّ الله قدّر وشاء أن يفعلَ الإنسانُ ما يريد فعله بإرادته، ويترك ما يريد تركه بإرادته؛ لهذا فإنّ اصطباغ الفعل البشري من حيث كونه طاعة أو معصية لله تعالى ناشئ مِن نوعيّة إرادته واختيار الإنسان نفسهِ وبعبارة أُخرى: إنّ الله واهبُ الوجود، والوجود مطلقاً مستند إليه ، ولا قبح في الأمر من هذه الناحية كما قال: (الّذِي أحسَنَ كُلَّ شيءٍ خَلْقَه)(4) ولكن جَعْل وجود هذا الفعل مطابقاً أو غير مطابق لمعايير العقل والشرع نابعٌ في الحقيقة من كيفية اختيار الإنسان وإرادته، وعزمه ولاِيضاح المقصود نأتي بمثال :إنّ الأكل والشرب من أفعال الإنسان بلا ريب فيقال أكل فلان وشرب، ولكنّ كلاً من الفعلين يشتمل على جهتين:الأولى: الوجود، وهو الأصل المشترك بينه وبين سائر الموجودات.الثانية: تحديد الوجود وصبّه في قالب خاص وانصباغه بعنواني الأكل والشرب، فالفعل من الجهة الأولى منسوب إلى الله سبحانه، فلا وجود في الكون إلاّ وهو مفاض منه تعالى، ولكنّه من الجهة الثانية منسوب إلى العبد إذ هو الذي باختياره وقدرته صَبَغ الوجود بصبغة خاصة وأضفى عليه عنواني الأكل والشرب، فهو بفمه يمضغ الغذاء ويبلع الماء وبعبارة أُخرى: إنّ الله سبحانه هو الذي مكّن العبد من إيجاد الفعل، وفي الوقت نفسه أعطى له الحرية لصرف القدرة في أيّ نحو شاء، وهو صرفها في مورد الأكل والشرب.
من كتاب: العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) : الشيخ جعفر السبحاني .
ـــــــــــــــــــــــــــــ(1):الرعد / 16(2):غافر / 62(3):الروم / 48(4):السجدة / 7
اترك تعليق