التفويض... الشبهة والمفهوم :
قد فهم بعضهم أنّ التفويض يعني أن لا قدرة لله على أمر الخلق بل فوّض ذلك إلى النبي أو الإمام، أي أن الله صار بمعزلٍ عن أمر خلقه... تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
هذه الشبهة دفعت بالبعض إلى النفور عن مسألة التفويض واتهام القائلين به بالغلو. ولكي نقلل قوة التباعد في المفهوم بين القائلين بالتفويض وبين الرافضين له نتساءل على ضوء المعطيات التالية:
أولاً: وحدانية الله تعالى :
هل يعني التفويض أن الله تعالى قد فرغ من الأمر بعد خلقه الخلق، وهل أن مقالة التفويض تضرّ في وحدانيته، أي تزاحم سلطنته وهيمنته على الأمور؟.
أم أن التفويض هو نحو من أنحاء السلطنة التي يتصرف صاحبها كيف يشاء وأنّى يشاء، ومنها أن يجعل بعض مهام أمور خلقه إلى بعض خلقه فيفيض عليهم من عطائه لمصلحة عباده؟.
ثانياً: الغلو:
إنّ الغلو هو تجاوز الحد الذي حدده القرآن والروايات في مقامات الأولياء، وأن تجاوز هذا الحد يعني أن يكون الولي في مرتبة من مراتب الإلوهية التي هي الشرك بعينها.
إلا أن التفويض الذي يقول به الإمامية لا يعني إلا أنه محض العبودية لله، لأن الذي يفوض إليه أمرٌ من الأمور، لا يكون إلا بعد أن محّضُ العبودية لله محضاً ثم يختاره الله تعالى، على أنه تكامل في طاعته وتفانى في عبادته.
فالتفويض لا يعني أكثر من كون المفوَّض إليه عبداً خالصاً لله، وكلّ ما فوض إليه فهو من فيض لطفه تعالى وكرمه على عباده المنتجبين.
فإذن ليس التفويض الاستقلال عن سلطنته تعالى، بل هو محض التسليم والطاعة والعبودية. هذه هي شبهة الذين اتهموا الآخرين بالقول بالتفويض، وهي شبهة في غير محلها لعدم الركون إلى المفهوم الصحيح للتفويض.
ثالثاً: المصلحة من التفويض:
إنّ ممارسة مهام النبي أو الإمام تتوقف على مدى صلاحياته في شأن أمته، فالناس ميالون لتصديق من له القدرة والقابلية على التصرفات الكونية أو الشرعية، فيكون التفويض ذا أثرٍ نفسي على توجهات الناس لقبولهم دعوة ذلك المبلغ الذي يستطيع أن يتصرف في التكوينات والتشريعات، إذ ذلك كاشفٌ عن مرتبة القرب إلى الله تعالى، حين لا يُنال ذلك إلا لدرجةٍ رفيعة ومقامٍ محمود يحظى به العبد عند ربّه، وبخلافه فستكون عدم الصلاحية في التصرفات سبباً في تنفير الناس وانفضاضهم من حوله، فالتفويض سببٌ لاستقطاب الناس كون المبلّغ هو القدوة، والقدوة بحاجةٍ إلى تسديدٍ رباني لإنحيال الناس عليه، في حين خلو القدوة من ميزات التصرف يجعل التأثير قليلاً أو معدوماً.
ما هي دائرة التفويض التشريعي؟
هل التفويض التشريعي يشمل:
أولاً: التفويض في الأحكام الكلية؟.
ثانياً: هل التشريع هو إمضاء من قبل الله تعالى لبعض الأحكام الجزئية التي شرّعها النبي (ص)؟.
ثالثاً: هل التفويض يعني التفويض في إدارة أمور الأمة ووصولها إلى مراتب الكمال؟.
رابعاً: هل التفويض يقتصر على الأمر المالي حيث يعطي النبي لمن يشاء ويمنع من يشاء على أساس المصلحة؟.
خامساً: هل التفويض يعني بيان علل بعض الأحكام الخفية والوقوف على أسرارها تبعاً للمصلحة؟.
كل هذه الأسئلة تُطرح على أساس البحث الذي تتكفله الروايات الواردة في معنى التفويض، ويمكننا أن نقتنص المعنى الذي تكفلت الروايات في الإجابة عنه.
روايات التفويض :
يمكن أن نقف على حدود الولاية التشريعية وبعض ماهياتها فيما إذا استعرضنا الروايات الواردة والتي تؤكد انّ دواعي التفويض هي لغرض التأكيد على طاعة الرسول في ما يأتيه من أحكام يجب الأخذ بها إظهاراً لطاعة العباد له ومتابعته كذلك منها:
الرواية الأولى:
يعقوب بن يزيد بسنده إلى أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنّ الله خلق محمداً عبداً فأدّبه، حتى إذا بلغ أربعين سنة أوحى إليه، وفوّض إليه الأشياء فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. (راجع بصائر الدرجات للصفار القمي 2: 228 المكتبة الحيدرية 1426).
تتحدث الرواية عن عبودية النبي (صلى الله عليه وآله) المتقدمة على بعثته، أي أن العبودية لله تعالى التي امتاز بها النبي (صلى الله عليه وآله) أهلته إلى تحمل مسؤولية البعثة فأوحى إليه وفوّض، ويبدو أن التفويض كان مقارناً للإيحاء وليس رتبة متقدمة عليه، إلا أن الترتيب يفيد الوحي، ثم التفويض إلى النبي في أمر الدين.
ومعلوم انّ الرواية أعمّ من التفويض التشريعي والتفويض التكويني حيث قال: وفوّض إليه الأشياء، والأشياء إشارة إلى العناية التكوينية بها من قبل النبي(ص) فضلاً عن العناية التشريعية كذلك، إلا أن قرينة الآية تدل على الأول أي التفويض التشريعي لقوله تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه» وهو أمر للامتثال بما يورده النبي (ص) من أحكام وتشريعات يُلزم بها المكلّفون.
الرواية الثانية:
عن زرارة أنه سمع أبا عبد الله وأبا جعفر عليهما السلام يقولان: أن الله فوّض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلا هذه الآية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. (نفس المصدر السابق).
تعلّل هذه الرواية الولاية التشريعية للنبي (صلى الله عليه وآله) وبيان المصلحة في ذلك، وظاهرها أنها تشير إلى حالة التسليم التي لابد أن يتحلى بها المؤمن حينما يأتيه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أمرٌ ما، فالتسليم بما ورد عن النبي كاشف عن الطاعة التي يتحلى بها المكلف، إذن فالتفويض هو كشف عن حالة التسليم والمتابعة للمكلف التي لابد أن يمتاز بها عند تعاطيه مع ما يرد عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أحكام.
الرواية الثالثة:ً
الحجال بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: ان الله أدّب نبيه (ص) على أدبه فلما انتهى به إلى ما أراد قال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ففوض إليه دينه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} وان الله فرض في القرآن ولم يقسّم للجد شيئا وان رسول الله (صلى الله عليه وآله ) أطعمه السدس فأجاز الله له، وان الله حرم الخمر بعينها وحرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله ) كل مسكر، فأجاز الله له ذلك وذلك قول الله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. (نفس المصدر السابق).
تكشف هذه الرواية عن العناية الخاصة التي أولاها الله تعالى لنبيه، فالتأديب يعني أن النبي (صلى الله عليه وآله ) وصل إلى حالة الكمال والاندكاك بالإرادة الإلهية، حتى صارت أرادته تمثّل إرادة الله تعالى، فالأدب هو عنايته تعالى بأن يرقى نبيه إلى مراقٍ تكون إرادته هي إرادة الله تعالى، لذا فما شرّعه النبي (صلى الله عليه وآله) أقره الله تعالى وأمضاه إذ إرادته لا تخالف إرادة الله ولا تتقاطع معها بحال، وبهذا فتكون إرادة الله تعالى متمثلة بإرادة رسوله، وتشريعه متمم لتشريعه تعالى لا للنقص بل للمصلحة التي تقتضيها حالات التشريع هذه، فبعضها منكشفة لدينا كالطاعة والتسليم والامتثال لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله ) وأخرى غير منكشفة إلا ما ينصّ عليها دليل.
الرواية الرابعة:
وفي حديث إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي جعفر بن محمد (عليه السلام): ان رسول الله (صلى الله عليه وآله ) كان مفوضاً إليه، ان الله تبارك وتعالى فوّض إلى سليمان عليه السلام ملكه فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وان الله فوّض إلى محمد (صلى الله عليه وآله) نبيه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} فقال رجل: إنما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله ) مفوّضاً إليه في الزرع والضرع، قال: فلوّى جعفر عليه السلام عنه مغضباً فقال: في كل شيء والله في كل شيء.
والرواية تبيّن إمكانية التفويض، فكما أن نبي الله سليمان فوّض إليه ملكه، فكذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوّض إليه أمر دينه، فالتفويض على أساس مهمة النبي التبليغية، فلما كانت مهمة سليمان محدودة في ملكه فالنبي مهمته تتسع بسعة رسالته الخاتمة للرسالات.
ثم أشارت الروايـة إلى سعـة دائرة هـذا التفويض لدى النبي (صلى الله عليه وآله) حيث لم يحدد الإمام (عليه السلام) هذه الدائـرة، فقـد جعلهـا مفتوحـة بقوله «في كل شي» أي لم تتحدّد بشيء دون شيء تبعاً لمهمته صلى الله عليه وآله.
الوسطية... لا إفراط ولا تفريط :
أهم ما نسعى إليه في كل تعاملاتنا وتعاطينا مع الأشياء هي الوسطية، فقد أكد الإسلام على سلوك هذه الوسطية في كل شيء، حتى امتدح الأمة الإسلامية بأنّها أمةً وسطاً لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، فالإفراط مرفوض لأنه يضع الأشياء في غير محلها، والتفريط ظلمٌ لأنه يُقصي الحق عن محله، من هنا نظرة الإمامية إلى التفويض كما جاء على لسان أهل البيت الذين أوضحوا المقصود من التفويض لئلا يختلط المفهوم وتتباين الرؤى.
فالتفويض لا يعني عزل الأمر عنه تعالى، بل التفويض يعني هيمنته على الأمر وقيمومته له وقدرته أن يفوض بعض شؤون الخلق، إلى بعض أوليائه ولكن تحت رعايته وضمن عنايته تعالى، كما أن زعم البعض بأن التفويض مزاحمة حقه تعالى فهو غير ورادٍ في معنى التفويض، فالقول بالتفويض تنزيه الربوبية عن كل ما يشين القدرة والسلطنة، وإقرارٌ بالعبودية بكلّ ما يليق بالطاعة والمتابعة، لأنه إقرارٌ بالاحتياج إليه وعدم الاستغناء عنه، لأن المفوض إليه لا ينقطع عن فيض الله تعالى، الذي اجتباه للتفويض واصطفاه لتدبير أمور خلقه بعنايته تعالى فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: من زعم أنا أرباب فنحن منه براء، ومن زعم ان إلينا الخلق والرزق فنحن منه براء كبراءة عيسى ابن مريم من النصارى.
الولاية التشريعية في منظور أهل السنة :
هذا ما كان من أمر ولاية النبي التشريعية عند الشيعة، ولا يمكن أن ينكر ذلك أحدٌ من المسلمين، وإلا فلابد من تجريد النبي من مهامه التبليغية بل ومسؤوليته النبوية، ولا يبقى له من الصلاحيات إلا نقل الوحي فقط، وإلغاء دوره القيادي والإصلاحي بعد ذلك.
لذا فإننا نجد من خلال كلمات أهل السنة ما يشير إلى ضرورة تفويض النبي التشريعي وإن لم ينصوا على ذلك، أي انّ مقتضى تنظيرهم أن يكون للنبي (صلى الله عليه وآله) الصلاحية في التشريع، فقد ذكروا في تعريف الولاية العامة قولهم:
الولاية العامة: سلطة على إلزام الغير وإنفاذ التصرف عليه بدون تفويض منه، تتعلق بأمور الدين والدنيا والنفس والمال، وتهيمن على مرافق الحياة العامة وشؤونها، من أجل جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، وهي منصب ديني ودنيوي شرّع لتحقيق ثلاثة أمور:
ــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ــ وأداء الأمانات إلى أهلها.
ــ والحكم بينهم بالعدل.
قال ابن تيمية: والمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم فإنهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم (مجموع فتاوى ابن تيمية 28: 68 عن الموسوعة الفقهية الكويتية45: 140).
وللولاية العامة مراتب واختصاصات تتفاوت فيما بينها وتتدرج من ولاية الإمام الأعظم إلى ولاية نوابه وولاته ونحوهم، وبها يناط تجهيز الجيوش، وسد الثغور وجباية الأموال من حلها، وصرفها في محلها، وتعيين القضاة والولاة، وإقامة الحج والجماعات، وإقامة الحدود والتعازير، وقمع البغاة والمفسدين، وحماية بيضة الدين وفصل الخصومات، وقطع المنازعات، ونصب الأوصياء، والنظار والمتولين ومحاسبتهم، وما سوى ذلك من الأمور التي يستتب بها الأمن ويحكّم شرع الله.
قال ابن تيمية: وأصل ذلك أن تعلم أنّ جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كلّه لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإنّ الله سبحانه انما خلق الخلق لذلك وبه أنزل الكتب وله أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول (صلى الله عليه وآله) والمؤمنون (راجع الحسبة: 8 عن الموسوعة الفقهية الكويتية).
هذا ما أفادته الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف الكويتية لسنة (1427 هـ ــ 2006 م)، وبغض النظر عن محاولتهم في تأصيل فقه ابن تيمية والتأكيد على وجهات نظره، إلا أن المهم في الأمر أن التنظير الفقهي لدى أهل السنة يتجه باتجاه إعطاء الصلاحيات الواسعة للنبي (صلى الله عليه وآله) في إدارة شؤون أمته وإكمال رسالته، حتى ذكروا في تعداد مهامه النبوية أنها تشمل جميع المناحي الدينية والدنيوية، وهو أمرٌ يتطلب أن يكون للنبي (صلى الله عليه وآله) الولاية التامة في التشريع الذي من خلاله يستيطع أن يدير شؤون أمته، فإصلاح الأمة، وأن يكون الدين كلّه لله، وحماية بيضة الدين، وفصل الخصومات، وقطع المنازعات، وبالتالي أن تكون كلمة الله هي العليا، كما ورد في تنظيراتهم، فإنّ ذلك يقتضي أن تكون يد النبي التشريعية مبسوطة وصلاحياته مفتوحة، وأن تشعر الأمة بأهمية دور النبي (صلى الله عليه وآله) التبليغي وأنّ طاعته وطاعة الله واحدة كل ذلك لا يتم بمعزل عن ولايته التشريعية التي لابد أن يفوّض بها من قبل الله تعالى، وإلا تبقى هذه العناوين تنظيرية جامدة قابعة في زوايا التمني والترجي، دون أن نجد لها تفعيلاً في الخارج ينسجم وحركة النبي الإصلاحية.
إذن فلا خلاف بين قول الإمامية من ثبوت الولاية التشريعية واستحقاقها للنبي (صلى الله عليه وآله)، وبين قول علماء أهل السنة من أن الفتوى النبوية هي من مراتب الإمامة، وهي ولايته وإمامته التشريعية.
إذا ثبت أمر الولاية التشريعية للنبي، فقد ثبت معه أمر الولاية لخليفته المتوفر على شروط الإمامة العظمى وأهمها العصمة، فإنها منشأ كل ولاية وأهلية كل إمامة، وإذا علمنا أن أئمة أهل البيت قد توفر فيهم هذا الشرط ــ شرط العصمة ــ فقد توفرت أهليتهم للإمامة والولاية التشريعية، وإلا فلا يمكن أن نقول بانقطاع ولاية التشريع بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إذ الحاجة إلى شؤون الأمة التشريعية وقيادتهم إلى حيث رضا الله تعالى وعبادته يتوقف بالقيم على هذا الشرع الذي لا يمكن أن يخلو منه زمان دون زمان، ولا تتوفر لأحد إمكانية العصمة، ممن ادّعى خلافة النبي على مستوى الدعاوى السياسية غير المستندة إلى شرعية الوصية والاستخلاف.
بقلم: السيد محمد علي الحلو.
اترك تعليق