هل يجوز الحلف بغير اللّه سبحانه كالحلف بالنبي ( صلى الله عليه وآله) و القرآن والكعبة وغيرها من المقدسات أو لا ؟ عندما نستنطق القرآن في ذلك ، نرى انّه سبحانه حلف في سورة الشمس وحدها بثمانية أشياء من مخلوقاته هي : الشمس ، ضحاها ، القمر ، النهار ، الليل ، السماء ، الاَرض ، والنفس الاِنسانية. وكذلك ورد الحلف بغير اللّه في سورة النازعات والمرسلات والطارق والقلم والعصر والبلد وإليك نماذج من الحلف بالمخلوق في غير تلك السور. (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى). (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ). (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ). (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ). فلو كان الحلف بغير اللّه شركاً وأمراً قبيحاً ، فكيف يصدر منه سبحانه وقد وصف الشرك بالفحشاء ، وقال : (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). والقبيح قبيح مطلقاً دون فرق بين ارتكابه من قِبل الخالق أو المخلوق ، وهذا يُعرب عن أنّ الحلف بغير اللّه سبحانه إذا كان لغاية عقلائية أمر لا محذور فيه. ثمّ إنّ الغاية ـ غالباً ـ من حلفه سبحانه بالاُمور الكونية هي الاِشارة إلى الاَسرار المكنونة فيها ودعوة الناس إلى الامعان فيها وكشف رموزها ، ولكن الغاية في حلف الاِنسان بالذوات القدسية ـ وراء الاشارة إلى قدسيّتهم ـ هي امّا الترغيب أو الترهيب أو كسب ثقة المقابل. وإذا عطفنا النظر إلى السنة النبوية نجد انّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله) يحلف بغير اللّه سبحانه. أخرج مسلم في صحيحه : عن أبي هريرة ، قال : "جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله) فقال : يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجراً ؟ فقال : أما ـ وأبيك ـ لتنبّأنّه أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ) .(1) وأخرج أيضاً عن طلحة بن عبيد اللّه ، قال : "جاء رجل إلى رسول اللّه ـ من نجد ـ يسأل عن الاِسلام ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله) : خمس صلوات في اليوم والليل. فقال : هل عليَّ غيرهن ؟ قال : لا ... الا أن تطوع ، وصيام شهر رمضان. فقال : هل عليَّ غيرها ؟ قال : لا ... الا ان تطوع ، وذكر له رسول اللّه الزكاة. فقال الرجل : هل عليّ غيره ؟ قال : لا ... الا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول : واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول اللّه : أفلح ـ و أبيه ـ إن صدق. أو قال : دخل الجنة ـ وأبيه ـ إن صدق . (2) وثمةأحاديث أُخرى طوينا الكلام عن ذكرها مخافة الاطالة.سوَال وجواب أخرج النسائي في سننه ، عن ابن عمر : انّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله) قال : من حلف بغير اللّه فقد أشرك (3). ومعه كيف يجوز الحلف بغير اللّه سبحانه ؟ والجواب : انّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله) يشير في قوله هذا إلى نوع خاص من الحلف الرائج في ذلك العصر وهو الحلف بالأصنام كاللات والعزّى ، ويدل على ذلك ما أخرجه النسائي أيضاً في سننه عن النبي ( صلى الله عليه وآله) أنّه قال : ( من حلف ، فقال في حلفه باللات والعزّى ، فليقل لا إله إلاّ اللّه ).(4) وأخرج أيضاً عن النبي ( صلى الله عليه وآله) قال : لا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمّهاتكم ولا بالاَنداد.(5) إنّ الحديث الاَوّل يكشف عن انّ رواسب الجاهلية ما زالت عالقة في بعض النفوس ، فكانوا يحلفون بأصنامهم ، فأمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله) أن يقولوا بعد الحلف ( لاإله إلاّ اللّه ) ، لاَجل القضاء على تلك الخلفيات. كما انّ الحديث الثاني يشير إلى انّ وجه المنع عن الحلف بالآباء والاُمّهات لشركهم ويؤَيد ذلك اقترانها بقوله ولا بالانداد ، والمراد منها هي الاَصنام والاَوثان. ويظهر من كثير من الفقهاء جواز الحلف بغير اللّه غير انّهم اختلفوا في وجوب الكفارة عند الحنث ، وهذا يعرب عن تصافقهم على جواز الحلف وإنّما الاختلاف في انعقاده وكفارته ، وإليك بعض النصوص: قال ابن قدامة : الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام اللّه يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها ، وبهذا قال ابن مسعود ، والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأبو عبيد وعامة أهل البيت. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس بيمين ولا تجب به كفارة . (6) وقال ابن قدامة في موضع آخر: ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق والاَنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها ، وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء ، وقال أصحابنا: الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة. (7) نعم اتّفق الفقهاء على أنّه لا تفُضَّ الخصومات عند القاضي إلاّ بالحلف باللّه.(تسمية المواليد بإضافة العبد إلى غير اللّه سبحانه) لقد تعارف لدى المسلمين تسمية أولادهم بعبد الرسول وعبد الحسين وما ضاهاهما ويجمع الكلّ اضافته إلى أسماء الرسول وأئمّة الاِسلام. وربما وقع ذلك ذريعة للسؤال عن جوازه ، فنقول:تطلق العبودية ويراد منها أحد المعاني التالية : 1 ـ العبودية هي التي تقابل الأُلوهية ، وهي بهذا المعنى ناشئة من المملوكية التكوينية التي تعمّ جميع العباد ، ومنشأ المملوكية كونه سبحانه خالقاً ، والإنسان مخلوقاً. وعلى ضوء ذلك فالعبودية إذا كانت رمزاً للمملوكية الناشئة من الخالقية ، فهي لا تضاف إلاّ إلى اللّه سبحانه كما يقول سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا). وقال سبحانه حاكياً عن المسيح(عليه السلام) : (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) . 2 ـ العبودية الوضعية الناشئة من غلبة إنسان على إنسان في الحروب وقد أمضاها الشارع تحت ظل شرائط معينة مذكورة في الفقه. فأمر الاسارى ـ الذين يقعون في الاَسر بيد المسلمين ـ موكول إلى الحاكم الشرعي فهو مخيّر بين إطلاق سراحهم بلا عوض أو بأخذ مال منهم أو استرقاقهم. فإذا اختار الثالث فيكون الاَسير عبداً للمسلم ، ولذلك ترى انّ الفقهاء عقدوا باباً بإسم ( العبيد والاماء ). قال سبحانه : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). تجد انّه سبحانه ينسب العبودية والإمائية إلى الذي يتملكونهم ويقول ( عبادكم وإمائكم ) فيضيف العبد إلى غير اسمه جلّ ذكره. 3 ـ العبودية بمعنى الطاعة وبها فسرها أصحاب المعاجم. وهذا هو المقصود من تلك الاسماء فيسمون أولادهم بإسم عبد الرسول أي مطيع الرسول وعبد الحسين أي مطيعه وكلّ مسلم مطيع للرسول والاَئمّة من بعده ولا شكّ انّه يجب إطاعة النبي ( صلى الله عليه وآله) وأولي الاَمر . قال سبحانه : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). فعرف القرآن النبي مطاعاً والمسلمين مطيعين ، ولا عتب على الاِنسان أن يظهر هذا المعنى في تسمية أولاده وأفلاذ كبده . نعم المسمى بعبد الرسول هو عبد للرسول و في الوقت نفسه عبد للّه أيضاً و لا منافاة بين النسبتين لما عرفت من انّ العبودية في الصورة الاولى هي العبودية التكوينية النابعة من الخالقية ولكنّها في الصورة الثانية ناجمة عن تشريعه سبحانه حيث جعل النبي مطاعاً وأمر الناس باطاعته وشتان ما بينهما.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1):صحيح مسلم:3/94،باب افضل الصدقة من كتاب الزكاة.(2):أي:قسما بأبيه،و(الواو)للقسم.(3و4و5):سنن النسائي:7/8.(6):المغني:11/193،كتاب اليمين.(7):المغني:22/209.المصدر: بحوث قرآنية في التوحيد والشرك / للعلامة المحقق جعفر السبحاني.
اترك تعليق