قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . البقرة : 183 ـ 184 .
توجيه الخطاب :
خص الله تعالى خطاب الصوم بالإنسان المؤمن بقوله : { يا ايها الذين آمنوا } حيث ان الإنسانية والإيمانية أمران متلازمان بل متحدان . فإن الإنسان حقيقة هو المؤمن والمؤمن هو الإنسان ، إذ الإنسان إنسان بعقله والعقل على ما عرّفه الإمام الصادق (عليه السلام) هو ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان . وهذا لا يكون إلا في المؤمن .
هذا الخطاب الإلهي (وهو خطاب الصوم) آثر به الله تعالى أمة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) على بقية الأمم السالفة ، واختص به الأنبياء والرسل والاصفياء من دون سائر الأمم ، في الفقيه عن حفص بن غياث قال سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: ( شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على احد من الأمم قبلنا).
قلت له فقول الله عزّ وجلّ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
فقال : إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الانبياء دون الأمم ، ففضّل الله هذه الامة وجعل صيامه فرضا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى امته ) .
وعند ملاحظة الكتب الدينية القديمة نجد هناك نصوصا تشير الى ان الصيام كان مخاطب به الانبياء والاصفياء ، فقد جاء في التوراة ان موسى (عليه وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام) صام اربعين يوما ، فقد جاء فيها : ( أقمت في الجبل اربعين نهارا واربعين ليلة لا آكل خبزا ولا اشرب ماء ) التوراة ، سفر التثنية ، الفصل 9 ، ص 288 .
وقد جاء في الانجيل ان السيد المسيح (عليه السلام) صام اربعين يوما : ( ثم اصعد يسوع الى البرية من الروح ليجرّب من إبليس فبعد ما صام اربعين نهارا واربعين ليلة جاع اخيرا ) . إنجيل متى الإصحاح الرابع ، الرقم 1و2 .
ويبدو من نصوص إنجيل (لوقا) ان حواريّي السيد المسيح صاموا ايضا . إنجيل (لوقا) الإصحاح الخامس ، الرقم 33 .
وجاء في قاموس الكتاب المقدس ايضا : ( ... من هنا كانت حياة الحوارييّن والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالأتعاب وبالصوم ) . قاموس الكتاب المقدس : ص 428 .
وتأييدا لذلك ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (( ان الله تبارك وتعالى لم يفرض صيام شهر رمضان فيمن مضى إلا على الانبياء دون الأمم ، وإنما فرض عليكم ما فرض على انبيائه ورسله قبلي اكراما وتفضيلا لي ، والذي بعثني بالحقّ ما اعطى الله عزّ وجلّ نبيا من انبيائه فضيلة إلا وقد اعطانيها ، ولقد اعطاني ما لم يعطهم وفضلني على كافتهم وانا سيّدهم وخيرهم وأفضلهم ...)) عن كتاب وقائع الايام : ص 425 لأبن طاووس السيد رضي الدين .
اختيار شهر رمضان :
لماذا اختير شهر رمضان شهرا للصوم ؟
اختير لأنه :
اولا : يمتاز عن بقية الشهور : لأن القرآن الكريم نزل فيه ، قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ } الذي يضمن سعادة البشرية .
وفي الروايات الاسلامية ان كلّ الكتب السماوية : التوراة ، والانجيل ، والصحف ، والقرآن ، نزلت في هذا الشهر .
في الكافي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال :
(( نزلت صحف ابراهيم في اول ليلة من شهر رمضان ، ونزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان ، وانزل الإنجيل لثلاث عشرة خلون من شهر رمضان ، وانزل الزبور لثماني عشرة خلون من شهر رمضان ، وانزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان )) .
ثانيا : شهر تربية وتعليم ، لأن التربية غير ممكنة ما لم يكن هناك تعليم جيد وصحيح ، والصوم منهج تربوي يرافق الإنسان في كل سنة ، منطلق من تعاليم السماء لتطهير الإنسان من كلّ أثم ودنس وخطيئة .
ثالثا : ركّز الرسول (صلى الله عليه وآله) على هذا الشهر ، وقد ظهر ذلك من خلال خطبته في آخر جمعة من شهر شعبان ، حيث وصف شهر رمضان بالأوصاف التالية :
1ـ انه شهر الله ، فقد اضاف الشهر اليه تعالى ، فهو اسم من اسماء الله تبارك وتعالى ، تنبيها على عظيم قدره وجليل خطره ، حيث ضمنه فضيلة الانتساب اليه المشعرة بفضيلة الذات . ففي الكافي عن ابي جعفر (عليه السلام) في مضمون الرواية : لا تقولوا هذا رمضان ولا ذهب رمضان ولا جاء رمضان فرمضان اسم من اسماء الله تعالى وهو عزّ وجل لا يجيء ولا يذهب ، ولكن قولوا شهر رمضان .
وحينئذ لا بد ان تكون ميزته اكثر من بقية الشهور ، لأن فيه تحصل تزكية النفس من الادران العالقة بها على طول احدى عشر شهرا ، فيرمض الذنوب ، وينتج عن ذلك الرحمة والمغفرة .
2ـ انه افضل الشهور عند الله على نحو العموم ، فأيامه ، ولياليه ، وساعاته افضل من ايام وليالي وساعات بقية الشهور ، وبهذا الوصف يكفي في امتيازه عن بقية الشهور .
3ـ فيه دعوة الله لضيافته في هذا الشهر ، وما اشرف واعلى ضيافة من ضيافة الله ، فيكون العبد فيه من اهل كرامة الله .
قد يسأل سائل : لماذا حدد الخطاب الإلهي الصوم بعدّة ايام معدودات بقوله تعالى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } ؟
لإخراج الابهام المطلق المتناول لصوم الدهر او السنين . ووصفه بالأيام المعدودات تفيد بأنها ايام قليلة ومحصورة ومتعينة ، مقابل ايام الدهر والسنين .
قد يقال : ان المراد بالأيام المفروضة في هذه الآية {ايام معدودات} ثلاثة ايام من كلّ شهر ونحو ذلك ، لأن اقل العدد ثلاثة؟
اختلف في هذه الأيام على قولين :
احدهما : انها غير شهر رمضان ، وكانت ثلاثة ايام من كل شهر ، ثم نسخ .
والآخر : ان المعنى بالمعدودات شهر رمضان . وهذا القول عليه اكثر المفسرين ، قالوا : أوجب الله سبحانه الصوم أولا فأجمله ، ولم يبين انها يوم او يومان او اكثر ، ثم بين انها ايام معلومات وأبهم ، ثم بينه بقوله : { شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن } ، قال : القاضي : هذا اولى ، لأنه اذا امكن حمله على معنى من غير اثبات نسخ كان اولى ، ولأن ما قالوه زيادة لا دليل عليه . مجمع البيان : ج2 ص26 .
وقال السيد عبد الكريم المدني : اما انها منسوخة بشهر رمضان بقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، إلا ان الاظهر عند الاكثر هو شهر رمضان وان الآية المصرحة فيما بعد قوله تعالى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } بان الواجب هو شهر رمضان ، فتكون مفسرة لا ناسخة . كتاب فيوض الرحمن في محاضرات شهر رمضان : ج1 ص33 بتصرف .
ولهذا الخطاب الإلهي في الصوم له ثمرة وفائدة على الانسان المسلم ، منها ما دلّ عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) فيما خطبه في اول ليلة من شهر رمضان التي قال فيها بعد الحمد له تعالى والثناء عليه :
(( ايها الناس قد كفاكم الله عدوكم من الجن ، ووعدكم الاجابة وقال: ادعوني استجب لكم ، إلا وقد وكّل الله سبحانه بكل شيطان مريد سبعة من الملائكة ، فليس بمحلول حتى ينقضي شهر رمضان إلا وابواب السماء مفتحة ، من اول ليلة منه الى آخر ليلة منه ، والدعاء فيه مقبول ... )) . كتاب وقائع الايام : ص436 ابن طاووس السيد رضي الدين .
وعن الإمام علي (عليه السلام) في خطبته ، قال :
لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : ( ان الله تبارك وتعالى عند فطر كل ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار ، لا يعلم عددهم إلا هو علم الغيب عنده ، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه ) . كتاب وقائع الايام : ص 438 .
نكتة خلافية :
يرى ابناء العامة جواز الصوم في السفر ، وقد استدلوا على ذلك بقوله تعالى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ، بناء على ارجاع الخطاب القرآني في قوله تعالى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . البقرة : 184 . الى مطلق من يطيق الصيام صحيحا كان او مريضا ، وحاضرا كان او مسافرا .
إلا ان هذا القول يخالف ظهور الآية ، قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فالمريض والمسافر معفوان من الصوم وعليهما ان يقضيا صومهما في ايام اخرى ، وان الآية قد تصدرت بإعفاء الطاعنين في السن والمرضى الذين لا يرجى شفاؤهم ، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها فدية . وقوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }، ويطيقون : أي الذين يجهدهم الصوم ويثقل عليهم ، وهم الطاعنين في السن والمرضى الذين لا يرجى علاجهم فهؤلاء معفوون من الصوم وعليهم ان يدفعوا الفدية بدل ذلك وعلى المرضى الذين يشفون ان يقضوا صومهم .
وجاء في مجمع البيان : { وعلى الذين يطيقونه } الهاء يعود الى الصوم عند اكثر اهل العلم ، أي يطيقون الصوم ، خير الله المطيقين الصوم من الناس كلهم بين ان يصوموا ولا يكفروا ، وبين ان يفطروا ويكفروا عن كل يوم بإطعام مسكين ، لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ، ثم نسخ ذلك بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } .
اذ لا ريب مع فرض تخيير مطيق الصوم والفدية بينهما ، ان الصوم افضل طرفي التخيير ، كما لا ينبغي الريب ان الخطاب بقوله : وان تصوموا ، انما هو مع المطيقين الحاضرين المتمكنين من الصوم . وهناك قول آخر في عود ضمير الهاء في كلمة (يطيقونه) الى الفداء. ج2 ص28 . بتصرف
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } من مرض في شهر رمضان فأفطر ، ثم صح فلم يقض ما فاته حتى جاء شهر رمضان آخر فعليه ان يقضي ويتصدق لكل يوم مداً من الطعام .
يقول السيد عبد الكريم المدني :
وعلى هذا فمن تطوع خيرا بمعنى اطعم مسكين واحد او بمعنى اطعم مسكينا واحدا اكثر من مقدار الكفاية ، او بمعنى من جمع الصيام والتكفير فهو خير .
فكلام الرازي خلاف الظاهر ، ومعه يبطل ما استنتجه من لزوم الاضمار في قوله : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، وان التقدير : فافطر فعدّة من ايام أخر .
وكلامه جاء لتصحيح ما عن اسلافه من جواز الصوم في السفر لظاهر الآية والمخالف للأصل . كتاب فيوض الرحمن : ص 39 وقول الرازي هذا يخالف ايضا لما ذهب اليه الرعيل الاول من الذين صاحبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بالإضافة الى ذلك فقد جاء في تفسير البيان في تفسير قوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } عطف قوله : (على سفر) وهو ظرف ، على قوله : (مريضا) ، وهو اسم ، مع ان الظرف لا يعطف على الاسم ، لأنه وان كان ظرفا فهو بمعنى الاسم ، وتقديره: فمن كان منكم مريضا او مسافرا فالذي ينوب مناب صومه عدة من ايام اخر .
وفيه دلالة على ان المسافر والمريض يجب عليهما الافطار ، لأنه سبحانه اوجب القضاء بنفس السفر والمرض : ومن قدر في الآية : فأفطر ، فقد خالف الظاهر .
فقد ذهب الى وجوب الافطار في السفر جماعة من الذين صاحبوا الرسول منهم عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابي هريرة وعروة بن الزبير ، وهو مروي عن أئمتنا (عليهم السلام) . مجمع البيان : ج2 ص27 .
وفي ختامه مسك:
ان الله يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر ، ولذا خفف الحكم عن المسافر والمريض . لأن القوانين الاسلامية لا تقوم على المشقة وان ادى حكم إسلامي الى حرج ومشقة فانه يرفع عنه موقتا . قال تعالى : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } . الحج: الآية : 78
وان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : (( بعثت على الشريعة السمحة السهلة )) . اصول الكافي : ج5 ص494
الكاتب: السيد زكي الموسوي
اترك تعليق