مبحث الناسخ و المنسوخ في القرآن الكريم يمتلك اهمية كبيرة بين ابحاث علوم القران، وذلك على حساب كون تعلق بعض الاحكام الشرعية عليه من ناحية كون اثبات عدم نسخ الحكم او نسخه من قبل آية اخرى، ولذلك استحق هذا المبحث ان يخصص له الفصول من قبل الباحثين وعلماء التفسير في القرآن، و كما ينقل لنا عن الجوزي عن امير المؤمنين الامام علي عليه السلام : أنه مرّ بقاصّ [بقاضِ] فقال: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال لا.
قال: هلكت وأهلكت».( ابن الجوزي: نواسخ القرآن / 29).
فأصبح هذا المبحث من المباحث الثابتة في الشريعة الاسلامية – سواء في نسخ بعض الاحكام في الشريعة الاسلامية او نسخ الشرائع الدينية – وعليه اصبح للشريعة الاسلامية حق في القول انها ناسخة للشرائع السابقة لها وذلك لما آل اليه معنى النسخ لغوياً واصطلاحاً.
ففي اللغة بمعنى: الإزالة والنقل، "نسخت الشمس الظل وانتسخته: أزالته"
وفي الاصطلاح:هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنه شارع.(أبو القاسم الخوئي: البيان في تفسير القرآن/ 277).
ولذا فمن الضروري لكل من يعتبر القرآن منهجاً اسلاميا أو كتابا مهماً عليه ان لا يهمل مباحث علوم القرآن الكريم، لان الكثير ممن يدعون المعرفة في القران الكريم ويشكلون على آياته الشريفة متناسين ان للقرآن ايات ناسخة ومنسوخة و محكمة و متشابهة.. ولذا فان الإشكال على القرآن الكريم يجب ان يكون بآية محكمة غير منسوخة و الا فلا يمكن الاخذ بها لعدم توفر الاحاطة بعلوم القرآن لمن يضع هذا الإشكال.
و كثيرا ما تنبعث الاشكالات على القرآن الكريم من الديانة المسيحية باعتبار ان للقرآن الكريم آيات كثيرة تخاطب اهل الكتاب بخطاب توحيد المشتركات العقائدية و المناظرة بفرعياتها مثل:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران/64) فهذه دعوة صريحة من القرآن الكريم تدل على ان المبدأ في الدعوة الاسلامية هو ثقافة الحوار و فتح ساحات الفكر على مصراعيها وليس فتح ساحات الحروب كما يدعي بعض ممن ترعرعوا في كنائس الديانة المسيحية الذين يستدلون بآية:{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }(التوبة / 29).
حيث اعتبر بعض المخالفين والديانات ان هذه الاية ناسخة للآية التالية:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
واتخذوا اية القتال مستمسكاً على ان الاسلام يحرض على العنف وحصر الحلول في القتال، ولكنهم تناسوا أن آية العفو و الصفح غير منسوخة في حد ذاتها كما ذكر السيد الخوئي رضوان الله عليه في ثبوت عدم نسخ آية الصفح في قوله الذي ينص على ان اية { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... } هي مقيدة لإطلاق آية{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ }و الدليل هو : "انه لا يمكن القول بنسخ الاية بالاية(الاولى:{ قَاتِلُوا الَّذِينَ...})بعد ان كان في الاية المدعى نسخها لها غاية و وقت، وهما - الغاية و الوقت - و ان كانا مذكورين فيها على سبيل الاجمال لا التعيين الا ان هذا المقدار يكفي في عدم الالتزام بالنسخ فيها حيث ان النسخ لا يكون في حكم المؤقت الذي يرتفع بانتهاء وقته و انما يكون في الحكم الذي يكون ظاهره الاستمرار و التابيد بحسب اطلاق اللفظ دون ان يكون صريحا في ذلك. وعلى هذا المضمون من السيد الخوئي قدس سره فان اية: {قاتلوا الذين ...} هي لبيان الوقت و الغاية للحكم المذكور في آية:{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...} الذي هو:{ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ...}.
ويكمل السيد الخوئي قدس سره بما معناه: يشترط في قتال اهل الكتاب الامور التالية:
اولا: مبادأة اهل الكتاب المسلمين بالقتال:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }.
اي لا يجوز للمسلمين البدء بالقتال حتى ان يبدأ اهل الكتاب برمي نبلة الحرب أولاً.
ثانياً: محاولتهم فتنة المسلمين عن دينهم{ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ }.
اي ان ابتغى اهل الكتاب زرع الفتنة في صفوف المسلمين فهنا يستحقون القتال:{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}(البقرة / 191) حيث القتال مقرون و ملازم لارادة الفتنة منهم.
ثالثا: امتناعهم عن اعطاء الجزية للآية المتقدمة. { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } وفي غير هذه الحالات لا يجوز قتال اهل الكتاب وانما يكتفى بالصفح و العفو عنهم.
والجزية هنا حق مشروع في الاسلام والعقل، اما الاسلام فدليله نص الاية المذكورة، واما العقل فيحكم في كون كل كتابي او كافر يعيش تحت ضل الاسلام و حمايته و رعايته فانه محكوم بدفع ضريبة واحدة يقدرها الحاكم الشرعي من كل شخص على قدر استطاعته وذلك في مقابل حماية نفسه و وماله، فقد فرضت ضريبة واحدة عليهم، واما المسلمين فان الاسلام فرض عليهم ضريبتين وهما الخمس و الزكاة، وهذا ما تؤول اليه بعض الدول التي تعتبر متطور من الناحية القانونية و الرعاية الاجتماعية حيث جعلت الضرائب التي يدفعها البعض لشموله باللجوء او حيازته الجنسية للدولة التي يدفع فيها الضريبة باعتباره اصبح جزءأَ منها.
واما الجزية في الوقت الحالي فانها من الأحكام المعطلة في عصر الغيبة الكبرى للامام المهدي عجل الله فرجه باعتبارها من خصوصياته، اذن فهي ليست من حق الجهلاء ولا من حق حملة السلاح امثال داعش والشرذمة الذين لفوا ملفهم، ويشمل هذا الراي حتى المخالفين للامامية فانهم يعتقدون بخروج حكم اخذ الجزية محصور بفقهائهم، و مما سبق فان الجزية ليست بظلم كما يدعي المغرضون ولكن تراعى شروطها كما سبق.
لسنا هنا في صدد رد شبهة عن الجزية لكن تطلب الامر لردها احترازا ممن يصف الجزية بالظلم وانما مبحثنا الاصلي هو النظر في دقة مبحث الناسخ و المنسوخ و مناقشة مورد من موارد القاء الشبهات باستعمال الالتفاف على نص القرآن الكريم ، و الايعاز لمن يشكل أمثال هذه الاشكالات و هو غير ملم بعلوم القرآن و مباحثه الى التطلع الاكثر قبل القاء الشبهات.
وهنا تتبين اهمية هذا البحث القيم في علوم القرآن من حيث كونه آلة لرد الشبهات و مبحث يفتح آفاقاً للمفسرين و منبها أن للقرآن دقة في تدرج الامر الالهي .
قيس العامري
اترك تعليق