خصائص القرآن المكي وآثاره : ا ـ الخصائص الادبية في القرآن المكي : نزل القرآن بمكة في ثلاث عشرة سنة قصيرة آياته صغيرة في جل سوره . وفـي الـقـرآن المكي ما يدحض مزاعم قريش الباطلة في تعدد الالهة , ويدمغ حججهم الواهية في الـتـمسك بها وباعرافهم الجاهلية بحجج رصينة ويجيب عن اسئلتهم باجوبة شافية وافية وما فيه تعنيف شامت ورد على اقتراحاتهم الجاهلية . ومنه ما يقص ما جرى بين الرسول صلى الله عليه وآله وقريش من مناظرات ومجادلات , وما يحكي عن حوادث معاصرة او غابرة مما جرى بين الانبياء واممهم يضرب بها مثلا لكفار قريش وما يجري بينهم وبين نبيهم من مشاجرات , ومنه ما يصور اهوال يوم القيامة مما يقشعر لها جلد العربي ذو الحس المرهف, ولـكـلام اللّه في القرآن الكريم ميزات كثيرة على كلام البشر جلية نقتصر في ما ياتي على ذكر الامتياز البلاغي ـ الادبي ـ ثم الفكري للقرآن المكي بحوله تعالى : اثر الامتياز الادبي في القرآن الكريم : - امثلة من آيات تتجلى فيها الميزة الادبية في القرآن المكي : بسم اللّه الرحمن الرحيم . {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [ سورة الضحى / الآية 1 ـ 11]. - أيّـة قطعة فنية من كلام البشر شعرا كان ام نثرا تضاهي هذه السورة او تدانيها, ام أيّة قطعة أدبية من كلام البشر توازي او تداني قوله تعالى في سورة الرحمن : بسم اللّه الرحمن الرحيم . {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ .. فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [سورة الرحمن/1-7 و13] ... - خذ اي فن من فنون كلام بلغاء الادميين, وقارنه بما شئت من مثيله في القرآن الكريم , لترى بلاغة الـقـرآن كضوء الشمس يخفي ضياؤه لمعان كل نجم في سماء الادب صغيرا كان او كبيرا خذ مثلا الفن القصصي من كلام الادميين وقارنه بنظيره في القرآن الكريم حيث قال ـ سبحانه وتعالى ـ في سورة الفيل : سم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [سورة الفيل / الآية 1-5] ... وخذ للمقارنة قصص بلغاء البشر الكبيرة من قصص القرآن , وخذ ان شئت في سورة يوسف احسن الـقـصـص او قـصص زكريا ومريم وعيسى ـ عليهم السلام ـ في سورة مريم او قصص هارون وموسى مع فرعون وبني اسرائيل في سائر السور. وهكذا لا يجارى القرآن ولا يبارى في اي فن من فنون البلاغة في التعبير, وكذلك لا شبيه له ولا نظير في ما يحوي من فنون العلم بالمبدأ والمعاد واخبار عوالم الملائكة والجن والانس والحيوان والـنـبات والجماد والسموات والكواكب وانظمة لحياة الانسان وسائر فنون المعرفة الصحيحة , وكـان لـبلاغة القرآن والجانب الادبي فيه الاثر البليغ في نفوس قريش كما يدل عليه امثال الخبر الاتي . تأثير القرآن المكي في قريش واستماعهم اليه سرا: روى ابن هشام وغيره واللفظ لابن هشام , قال : (ان ابا سفيان بن حرب وابا جهل بن هشام والاخنس بن شريق بن عمرو ابن وهب الثقفي , حليف بني زهـرة , خـرجوا ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وهو يصلي من الليل في بيته, فاخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه, وكل لا يعلم بمكان صاحبه, فباتوا يستمعون له, حتى اذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق, فتلاوموا, وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا, فلو رآكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئا, ثم انصرفوا حتى اذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه, فباتوا يستمعون لـه , حـتـى اذا طـلـع الفجر تفرقوا, فجمعهم الطريق , فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا اول مرة ثم انـصرفوا حتى اذا كانت الليلة الثالثة اخذ كل رجل منهم مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى اذا طلع الـفجر تفرقوا, فجمعهم الطريق , فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد الا نعود: فتعاهدوا على ذلك , ثم تفرقوا...[1] هكذا كان للجانب الادبي من القرآن الكريم الاثر البليغ في نفوس من يستمع اليه ولذلك بذلت قريش جـهـدهـا لتمنع الحجيج من الاستماع الى قراءة الرسول للقرآن الكريم كما سياتي خبره في بحث الخصائص الفكرية في القرآن المكي الاتي . الخصائص الفكرية في القرآن المكي : يعرض القرآن المكي في سور صغيرة عقيدة التوحيد في الالوهية والربوبية ورسالة خاتم الانبياء وعـوالم المعاد بعد حياة الدنيا, وان القرآن كلام اللّه نزل لهداية البشر, ويدحض اعراف مشركي قريش الوثنية والجاهلية وحججهم على الرسول والقرآن الكريم , ويدعوهم الى العمل الصالح في الحياة الدنيا ومن امثلة ذلكم : ا ـ في التوحيد: قال ـ سبحانه وتعالى ـ في سورة التوحيد: بسم اللّه الرحمن الرحيم . (قل هو اللّه احد * اللّه الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا احد). ب ـ في خبر المعاد: قال سبحانه وتعالى في سورة يس : (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي انشاها اول مرة وهو بكل خلق عليم ) (الايات / 78 ـ 79). وقال تعالى في سورة الزلزلة : بسم اللّه الرحمن الرحيم . (اذا زلـزلـت الا رض زلـزالها * واخرجت الارض اثقالها * وقال الا نسان ما لها * يومئذ تحدث اخبارها * بان ربك اوحى لها * يومئذ يصدر الناس اشتاتا ليروا اعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ). جـ ـ دعوته للعمل الصالح : قال ـ سبحانه وتعالى ـ في سورة العصر: بسم اللّه الرحمن الرحيم . { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر / الآية 1- 3] كـانت تلكم امثلة من الآيات التي يتجلى فيها الامتياز البلاغي للقرآن الكريم ثم امثلة من الآيات التي تتجلى فيها الخصائص الفكرية للقرآن المكي . ولـم نـقـصـد مـن ايـراد آيـات لتعريف الميزات الادبية في القرآن الكريم ثم آيات اخر لتعريف الـخـصائص الفكرية فيه , تصنيف آيات القرآن الى صنفين متقابلين : آيات تمتاز ببلاغتها في الكلام واخـرى بـمـا تحوي من فكر وعلم , كلا (فـيتامينات ) مقومة لحياته في ثمار لذيذة الطعم كالتمر والتفاح والعنب والليمون والمشمش كذلك جـعـل مـا تـحتاجه نفسه من افكار مقومة لحياته النفسية والجسدية في فنون من الكلام في القرآن الكريم تهش الى سماعها نفسه . وكـمـا ان الانـسان قد يصاب في جسده بغدد سرطانية يجب البدء باستئصالها من جذورها ثم القيام بـتـقـويـة جسده وتقويمه بما يحتاجه الجسد من مقومات الحياة في طعامه وشرابه , كذلك الانسان الـمـتلوث فكره بالوثنيات والاعراف الجاهلية يجب البدء باستئصال افكاره المريضة الراسخة في اعـمـاق نـفـسـه وقـطـعها من جذورها ولذلك بدا خليل اللّه ابراهيم دعوته الناس الى عبادة اللّه بزعزعة عقيدة عبدة الكواكب وكسر اوثان عبدة الاصنام وبدا خاتم الرسل بدعوة المشركين الى ان يـقـولـوا: لا اله الا اللّه , اي ان ينبذوا جميع اصنامهم التي يعبدونها اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى وسائر آلهتهم . وكـمـا ان الانسان المدمن للخمور واستعمال المخدرات يصرف كل طاقاته الفكرية والجسدية في سـبـيل ادامة تعاطي الخمور والمخدرات ويقاوم بكل ما اوتي من حول وقوة من يرد ان يحول بينه وبينها كـذلـك الانـسـان الـمـتـلوث فكره بالوثنيات والاعراف الجاهلية يصرف جميع طاقاته في سبيل الـمـحافظة على ما تلوث به فكره واعتاده من اعراف جاهلية وعبادات وثنية ويحارب من يريد ان يـحـول بـيـنه وبين اعرافه وعباداته ومن هنا يلقى ابراهيم في النار لتحرقه ويقابل خاتم الانبياء بصنوف من الاذى والطغيان ولمن آمن بقرآنه بانواع من العسف والظلم والعدوان . لـو اقـتـصر القرآن في مكة على عرض الجوانب الفنية والادبية في الكلام ولم يتعرض لأعراف قـريش الجاهلية, ولم يسفه احلامهم, ويسب الهتهم, لرفعت قريش الرسول فوق اكتافها, وشمخت بـنـافـهـا, وفاخرت به قبائل العرب وكاثرت به , ونافرت , لكن القرآن خاصمهم في كل جانب من جـوانـب اعـرافهم الجاهلية فوقع بينهم وبين القرآن ومبلغه الرسول ما سنذكره بحوله تعالى بعد ايراد مثالين من اثر القرآن الفكري في الانسان العربي في ما ياتي : ا ـ قيام قريش لمقابلة الاثر الفكري للقرآن الكريم : بذلت قريش جهودا ضخمة لصد الاثر الفكري للقرآن المكي عن الناس نذكر منها على سبيل المثال الموارد الاتية : ذكـر ابـن عـساكر وغيره في ترجمة عتبة ما موجزه قال : ان قريش جتمعت برسول اللّه صلى الله عليه وآله ورسول اللّه صلى الله عليه وآله في المسجد, فقال لهم عتبة بن ربيعة دعوني حتى اقوم الى محمد, فاكمله , فاني عسى ان اكون ارفق به منكم . فقام عتبة , حتى جلس اليه , فقال يا ابن اخي : انك اوسطنا بيتا وافضلنا مكانا وقد ادخلت على قومك ما لـم يدخل رجل على قومه قبلك , فان كنت تطلب بهذا الحديث مالا, فذلك لك على قومك ان تجمع لك حـتى تكون اكثرنا مالا, وان كنت تريد شرفا فنحن مشرفوك , حتى لا يكون احد من قومك فوقك , ولا نقطع الامور دونك . وان كان هذا عن لمم يصيبك لا تقدر عن النزوع عنه , بذلنا لك خزائنا في طلب الطب لذلك منه . وان كنت تريد ملكا ملكناك . قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله: افرغت يا ابا الوليد؟. قال : نعم . فقرا صلى الله عليه وآله حم السجدة حتى مر بالسجدة فسجد وعتبة ملق يده خلف ظهره حتى فرغ من قراءتها. وقام عتبة لا يدري ما يراجعه به حتى اتى , نادى قومه فلما راوه مقبلا قالوا لقد رجع اليكم بوجه ما قام به من عندكم . فـجـلـس اليهم فقال يا معشر قريش قد كلمته بالذي امرتموني به حتى اذا فرغت كلمني بكلام لا واللّه ما سمعت اذناي بمثله قط فما دريت ما اقول له يا معشر قريش اطيعوني اليوم واعصوني فيما بـعـده اتركوا الرجل واعتزلوه فو اللّه ما هو بتارك ما هو عليه وخلوا بينه وبين سائر العرب فان يـكـن يـظـهر عليهم يكن شرفه شرفكم وعزه عزكم وملكه ملككم وان يظهروا عليه تكونوا قد كفيتموه بغيركم . قالوا: أصبات اليه يا ابا الوليد [2] . * * * تـاثر جمع من افراد قبائل قريش بالقرآن , وآمنوا به , وسنشير الى خبرهم في آخر هذا البحث ـ ان شاء اللّه تعالى ـ, ولم ينحصر تاثير القرآن في قريش وحدها بل كان تاثيره في العرب , من غير افـراد قـريش اكثر من تاثيره في قريش كما نرى مثله في خبر قيام قريش لمقابلة الاثر الفكري الاتي . ب ـ الاثر الفكري والادبي للقرآن المكي في الانسان العربي من غير قريش : قصة اسلام الطفيل بن عمرو الدوسي : روى ابن هشام [3] وغيره واللفظ لابن هشام , قال: (كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله, على ما يرى من قومه , يبذل لهم النصحية ويدعوهم الى النجاة مما هم فيه , وجعلت قريش حين منعه اللّه منهم , يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب . وكـان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث : انه قدم مكة ورسول اللّه صلى الله عليه وآله بها, فمشى اليه رجال من قـريش , وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا, فقالوا له : يا طفيل , انك قدمت بلادنا, وهذا الرجل الـذي بـيـن اظهرنا قد اعضل بنا, وقد فرق جماعتنا, وشتت امرنا, وانما قوله كالسحر يفرق بين الـرجـل وبـين ابيه , وبين الرجل وبين اخيه , وبين الرجل وبين زوجته , وانا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا, فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا. قـال : فـواللّه مـا زالوا بي حتى اجمعت ام لا اسمع منه شيئا ولا اكلمه , حتى حشوت في اذني حين غدوت الى المسجد كرسفا فرقا. من ان يبلغني شي ء من قوله , وانا لا اريد ان اسمعه . قال : فغدوت الى المسجد, فاذا رسول اللّه صلى الله عليه وآله قائم يصلي عند الكعبة . قال : فقمت منه قريبا فابى اللّه الا ان يسمعني بعض قوله . قال : فسمعت كلاما حسنا. قـال : فـقـلت في نفسي واثكل امي , واللّه اني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح , فما يمنعني ان اسمع من هذا الرجل . ما يقول قال : فمكثت حتى انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وآله الى بيته فاتبعته , حتى اذا دخل بيته دخلت عليه , فقلت : يا محمد, ان قومك قد قالوا لي كذا وكذا, للذي قالوا, فواللّه ما برحوا يخوفونني امرك حتى سددت اذنـي بـكـرسف , لئلا اسمع قولك , ثم ابى اللّه الا ان يسمعني قولك , فسمعته قولا حسنا, فاعرض علي امرك . قال : فعرض علي رسول اللّه صلى الله عليه وآله الاسلام , وتلا علي القرآن , فلا واللّه ما سمعت قولا قط احسن منه , ولا امرا اعدل منه قال : فـاسـلـمـت وشهدت : شهادة الحق , وقلت : يا نبي اللّه , اني امرؤ مطاع في قومي , وانا راجع اليهم , وداعيهم الى الاسلام ). ثم روى ابن هشام بعد ذلك كيف دعا عمرو بن الطفيل عشيرته دوس الى الاسلام عندما رجع اليهم وكيف انتشر فيهم الاسلام وكيف وفدوا الى رسول اللّه صلى الله عليه وآله بعد غزوة خيبر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]- سيرة ابن هشام / 337 ـ 338. [2]- سيرة ابن هشام / 313 ـ 314. [3]- سيرة ابن هشام 1 / 407 ـ 411.
اترك تعليق