تظهر كلمة النبي، صلى الله عليه وآله، الشهيرة: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت" في أوضح صورة بأدنى معرفة لحجم الأذى الذي لاقاه من قريش إزاء إحسانه بدعوتهم إلى ما ينجيهم من عذاب أليم.
لم تكن دعوة تقتصر على فروض غيبية تحتمل البطلان، بقدر ما كانت تحمل منهجاً واضحاً لوضع حدود لضياع الأمة وتناحرها فيما بينها.. التاريخ يحدثنا بكل صراحة عن ظروف "مرعبة" لا يأمن فيها الإنسان على نفسه وعياله وماله، فيما كانت دعوة النبي تحمل معها برنامجاً حضارياً يضمن لهم الخلاص من هذه الحقبة المظلمة.
غير أن الإساءة والأذى كانا جزاء ذلك الإحسان. وبمجرد أن رحل "أبو طالب" عم النبي، بدأت ملامح الرفض لوجوده تنتشر سريعاً، فكانوا ينالون منه في كل وقت ويؤذونه أيما إيذاء، وقد جرى على لسانه هذه الحال بقوله، صلى الله عليه وآله: "ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرَهُهُ حتّى مات أبو طالب".
ويشير إلى ذلك ابن هشام في كتابه "السيرة النبوية" بالقول: "إن خديجة بنت خويلد، وأبا طالب هلكا - أي وتوفيا - في عام واحد فتتابعت على رسول الله المصائب".
ويقول عن أبي طالب: "كان له - أي للنبي - عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة وناصراً على قومه" إلى أن يقول "فلما هلك ابو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب"، وكل العجب ممن يأتي اليوم، ويتهم حامي سيد المرسلين بالكفر!.
"نثروا على رأسه التراب"
الشاهد على هذا الظلم الطارئ بعد الغياب الأبدي المفاجئ لحرز النبي؛ واحدة من الحوادث المؤلمة التي جرت عليه بعد وفاة أبي طالب، تتخلص باعتراض احد سفهاء قريش للنبي في طريقه ليقوم بنثر التراب على رأسه الشريف!.
دخل رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي يأمل الملايين من الناس اليوم أن يلثموا تراب نعليه، دخل إلى بيته وعلى رأسه التراب، فقامت إليه أحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي والنبي يقول لها: "لا تبكِ يا بنية فإن الله مانع أباك".
إلى الطائف..
هذا المشهد المؤلم، وغيرها من المشاهد التي لم تصلنا؛ دفع بالنبي إلى مدينة "الطائف"، أحد أقدم مدن العالم، التي يعود تاريخها إلى زمن النبي إبراهيم، عليه السلام، بحسب مؤرخين. كان يأمل صلى الله عليه وآله وسلم أن يجد فيهم عضداً وناصراً له، لكنه فوجئ بالقول السمج والرد العنيف.
وصل إلى الطائف، وعمد إلى جماعة من قبيلة "ثقيف" وهي واحدة من أقدم القبائل في المدينة ولا يزالوا فيها حتى اليوم. ينقل المؤرخون أن الجماعة التي قصدها النبي حال وصلوله الطائف كانوا من سادة ثقيف وأشرافهم.
جلس النبي، صلى الله عليه وآله، ودعاهم إلى الله لكنهم جابهوه بقسوة أشد مما كان يتوقع ويرجو منهم، بدايةً قال أحدهم: "لئن كنتَ رسولا من اللّه كما تقول لأنتَ أعظمُ خطراً من أردَّ عليك الكلام ، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي ان اكلمك..".
وقال آخر: "أعجز على الله أن يرسل غيرك؟؟".
لم تنته قصة الإساءات عند هذا الحد، بل عمدوا إلى جمع السفهاء في المدينة حول النبي، واخذوا يطلقون عليه أبشع اشكال السب والنيل منه، ثم رموه بالحجارة "حتى لم يكن يرفع قدماً ويضع أخرى إلا على الحجارة".. ليلجأ بعد ذلك إلى بستان لعتبة وشيبة ابنيّ ربيعة وقدماه تنزفان دماً، ولكم أن تتخيلوا حجم الألم!.
لحظة المناجاة.. إلى من تكلني؟
هناك في إحدى زوايا البستان لجأ إلى ربه وناجاه قائلا: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك".
أما التفاتة العطف الخجولة والوحيدة التي حصل عليها النبي في هذا الموقف الحرج؛ فكانت من رجل نصراني ضعيف يقال له "عداس" الذي رمى بنفسه على يدي وقدمي النبي يقبلهما بعد أن علم بخبر نبوته.
حسين الخشيمي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق