وجعٌ واحدٌ تقاسمه جميع الأنبياء والرسل الذين حملوا هم تبليغ رسالة السماء ، إنه بمثابة اللعنة التي أجهضت الكثير من مشاريعهم الرسالية الرامية إلى النهوض بمجتمعاتهم، ذاك هو وجع "الخذلان" الذي يتشعب منه "قلة الناصر" و "نقض العهود" وما الى ذلك من مفاهيم !
مع العصور وتعدد وسائل الشيطان بالإغواء ، وكثرة مغريات الدنيا ؛ يحدث خلل ما ، يشوه فطرة الإنسان ، ويجعل من قيم الفضيلة في القاع ، لتعتلي الرذيلة وعدم الوفاء قمة هرم الحياة ، وهنا يزداد وجع الصالحين والدعاة إلى الله جل وعلا ... كيف لا ؟ وقد أصبح أهل الدنيا يرون الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، وهذا أكثر ما كان يزيد ألم ومعاناة الأئمة عليهم السلام وهم يرون تفرق الناس من حولهم ، ليكون لهم النصيب الأكبر من الخذلان وعدم الوفاء بالعهود والمواثيق .
هناك على صفحات التاريخ الصفراء ، يوثق الصالحون هزائمهم المتكررة ، إنهم عاشوا مشاهد حية الـ "الخذلان" الذي انتهى بهم إلى قلة الناصر ، فما كان منهم إلا "القعود" وإيكال أمور الدولة والناس إلى أنفسهم ، لا سيّما وأن "الجُبن" حاضراً وملازما لمن عاصرهم ، سيما في أوقات مناهضة الكفار والظالمين الذين لا تستقيم معهم دولة أو حتى جمع بشري صالح .
هناك ثمة حوادث ومواقف مرت بها المجتمعات المحيطة بالأنبياء والأئمة عليهم السلام ، مع مقارنة تعكس حجم إخلاص ثلة طيبة من الأصحاب ، اقترنت اسماؤهم بالإمام الحسين عليه الصلاة والسلام ، وإنها لمفارقة عجيبة أن يجتمع نسيج واحد من ألوان متعددة بإرادة كانت فوق الانتماء ، ليشترك النصراني والعثماني والهاشمي في هدف واحد ، وهو الدفاع عن بقية رسول الله في أرضه آنذاك ، فيما يشير القرآن الكريم إلى أن غالبية الرسل والأنبياء كانوا من أبناء جلدة أقوامهم ويعرفون أصولهم ، إلا أنهم عانوا منهم الخذلان وقلة الناصر .
يا موسى.. اذهب أنت وربك فقاتلا !
ويشتهر بنو إسرائيل مع نبيهم موسى عليه السلام بواحدة من حوادث الخذلان التي كانت سبباً بنزول العذاب عليهم، وذلك عندما طلب منهم نبيهم تحرير أحدى مدنهم التي غزاها "قومٌ عمالقة" وصفهم القرآن الكريم بـ "قومٍ جبارين"، ومع أن موسى عليه السلام حاول مراتٍ عديدة من أن يهدئ روع قومه ويطمئنهم بوعد النصر المحقق في حال دخلوا تلك المدينة ؛ إلا أن الجبن سيطر عليهم وحال دون ذلك، فقالوا كلمتهم الشهيرة: "اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون" ، حتى انها أصبحت فيما بعد شعاراً للجماعات المتخاذلة والمتنصلة عن مسؤولياتها ! .
وقد عمد قوم موسى عليه السلام إلى جملة من التبريرات بقولهم : "إنا نخاف أن تسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا" وهو ما لم يخفه أصحاب الحسين رضوان الله تعالى عنهم أجمعين ، بل راحوا يتسابقون في تقديم أنفسهم وعيالهم فداءً للحسين ، ويتجدد موقف بني إسرائيل مرة أخرى في غياب موسى عليه السلام واتباعهم السريع للسامري الذي قاد حركة رجعية ضد حركة التوحيد من خلال دعوتهم لعبادة العجل ، ليُفتتن ويحيط الشرك ببني إسرائيل في أسوأ صورة .
معاجز خارقة لم تُقنع قوم عيسى (ع) !
ومع النبي عيسى عليه السلام كانت هناك صورة اخرى من صور الخذلان ، تجلت في عدم إيمان قومه بنبوته رغم المعاجز الكثيرة التي كان يتسلح بها ، والتي طالما استخدمها لإثبات شرعية صلته بالسماء ، ومنها إحياء الموتى ومعالجة الأمراض المستعصية على الطب المتقدم في ذلك الوقت ، فضلاً عن علمه بالتوراة ومجيئه بالإنجيل ككتاب سماوي جديد ؛ إلا أن عدد الذين آمنوا به (12) شخصاً فقط ، وهم الحواريون الذين أعلنوا عن إيمانهم المطلق بعد أن قال لقومه يطلب النصرة والمعين: (( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) (52 آل عمران) ، فأي معجزة خارقة تقف عاجزة عن إقناع القوم ؟ ويصدق ويؤمن آخرين بقضية إمامهم دون أدنى درجة من الشك أو الريب !.
خاتم الأنبياء.. ما أوذي نبيٌ مثلما أوذيت ...
أما الأمة التي تحدث عنها القرآن الكريم قائلاُ: (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ )) (110 آل عمران ) فهي الأخرى شاطرت الأقوام التي خلت ذات الخذلان لنبيها ، وهذا ما ظهر واضحاً في العديد من الحوادث ، ومنها ما جرى في معركة "الخندق" حيث أصاب المسلمين حالة من الخوف والجبن أمام "عمر بن عبد ود" عندما أخذ يجول بفرسه أمام جيش المسلمين داعياً إياهم إلى المبارزة دون ان يتلقى أدنى استجابة ! ولم يجرؤ على مبارزته في وقتها إلا علي بن أبي طالب عليه السلام ، الذي طلب الإذن من النبي صلى الله عليه وآله ، مراتٍ عدة لما رأى منهم شدة الرعب الذي استقر في قلوبهم ، ولعل عدم إعطاء النبي صلى الله عليه وآله الإذن لعلي عليهما السلام بمبارزة عمر بن عبد ود كان بهدف استبيان المسلمين وبيان تخاذل الجميع في تلك المعركة الفاصلة.
ويمضي النبي صلى الله عليه وآله مبلغاً لرسالته وسط تضييق وتنكيل قومه المتواصل، فمن رميه بالحجارة ، إلى نثر التراب على رأسه الشريف وهو ساجد يصلي ولجهم في أذيته حتى قال : "ما أوذي نبي مثلما ما أوذيت" وقال أيضاً بعد أن توفى عمه أبو طالب واستضعفه المشركون: "اللهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي وقلة حيلتي وناصري...".
علي (ع) يشكو خذلان أهل الكوفة ...
وبعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، تبدأ مرحلة شديدة الخطورة ، كشفت زيف وكذب الكثير ممن ارتدوا لباس الإسلام ، وأظهروا حجم حقدهم الذي كانوا يضمرونه للنبي ، ويأتي الإعلان الأول لحربهم على الإسلام وأهل البيت تحديداً عند غصبهم لحق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنصوصة ، وكذلك غصب حق بضعة النبي فاطمة الزهراء عليهما السلام ، ويستمر العداء لعلي لدرجة الاصطفاف مع أعدائه ومنهم معاوية بن أبي سفيان وواقعة "صفين" حيث الخذلان على أوجّه من أهل الكوفة الذين قال فيهم : "قاتلكم الله ، لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان..".
خذلان أهل الكوفة يتجدد مع الحسن (ع) ..
ويتكرر المشهد ذاته مع ريحانة رسول الله الإمام الحسن عليه السلام ، حيث أدى فقدان الأنصار والخذلان إلى التنازل عن حق خلافة المسلمين لمعاوية بن أبي سفيان ، وتعرضه للكثير من محاولات الاغتيال التي كان يدبرها معاوية بمكرٍ ودهاءٍ شديدين. وتصل مرحلة الانحطاط بالمجتمع المحيط بالإمام سلام الله عليه إلى اتهامه شخصياً بـ "خذلان" الشيعة وإذلالهم، حتى ينقل أن احدهم كان يسلم عليه قائلاً: "السلام على مذل المؤمنين" ! .
ويخاطبه أحدهم معترضاً على ذلك ويقول : " ..... أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيدا بتسليمك الأمر لهذا الطاغية ـ أي معاوية ـ ... " .
ويجيب الإمام عليه السلام حول هذا الموضوع قائلا : "والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ".
ثم يبين الإمام الحسن عليه السلام تخاذل أهل الكوفة بقوله: "ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسدا، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل ، إنهم لمختلفون ويقولون لنا : إن قلوبهم معنا ، وإن سيوفهم لمشهورة علينا ".
وحقاً ، إنه عليه السلام لو فكر حينها بمحاربة معاوية بن أبي سفيان لقتله قومه واهدوا رأسه لمعاوية!
أصحاب الإمام الحسين (ع) ... أوفى الأصحاب .
وبإزاء ما تقدم من حوادث ، تنبري ثلة طيبة من رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقدموا أرواحهم وعيالهم فداءً للحسين يوم عاشوراء ، ليتجلى الوفاء بالعهد في أبهى صوره ، عندما راح يتسابق الواحد منهم تلو الآخر للشهادة بين يدي أبي عبد الله الحسين في واقعة الطف، لينفرد الإمام الحسين عليه السلام بهذا الجمع الطيب الصادق من الأصحاب والممتد حتى يومنا هذا، ويؤكد ذلك عليه السلام بقوله: "فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي".
تفرقوا في سواد الليل فإن القوم يطلبوني.. والله لا نخليك !
ويظهر الولاء والوفاء والخير كله في الليلة التي سبقت يوم عاشوراء، حيث قال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه: "هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي ، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فان القوم انما يطلبوني ولو قد اصابوني لهوا عن طلب غيري ".
ويتأكد العزم على ثبات الموقف الخالي من المصالح عبر ردود أصحابه، فهذا سعد بن عبد الله الحنفي يصر على أن يقضي دون الحسين ويقول: "والله لا نخليك حتى يعلم الله انا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك ، والله لو علمت اني اقتل ثم احيا ثم احرق حيا ثم اذر ، يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى القى حمامي دونك ، فكيف الا افعل ذلك وانما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابدا ... " .
ويشاطر الحنفي زهير بن القين بمقولته: " والله لوددت اني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل كذا الف قتلة وان الله يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن انفس هؤلاء الفتية من اهل بيتك..."
أما مسلم بن عوسجه ، تلك الشيبة التي جاوزت حد الثمانين عاماً ، فبقي حتى أنفاسه الأخيرة يوصي حبيب بن مظاهر الأسدي بعد أن أشار نحو الإمام الحسين عليه السلام وقال: " أوصيك بهذا خيراً ، فقاتل دونه حتى تموت ".
لقد رسمت هذه النخبة الطيبة طريقاً للملايين من الشيعة في العالم ، فهم يتنافسون في كل عصر لتقديم الأرواح والأموال من أجل استمرار رسالة الحسين عليه السلام، وليلتحق الجميع بركب أصحابه الذين أصبحوا قدوات صالحة للأجيال ، وعلى الرغم من شدة التحديات المتمثلة بالإرهاب التكفيري ومخاطر الطريق ؛ إلا أنهم يصرون على نصرة إمامهم الحسين عليه السلام أسوة بأصحابه وأهل بيته ، وهذا ما افتقرت له جميع الأقوام على عهود الأنبياء وأوصيائهم .
حسين الخشيمي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق