( لعلَّه يَتَذَكَّرُ أو يَخشَى )

 ( لعلَّه يَتَذَكَّرُ أو يَخشَى )

هذه الآية وما يضارعها تعليمات في أدبيات الحوار بين الخصوم ، ونحن أحوج ما نكون اليومَ للتذكير بهذه الآية ، فإنَّ جبّار السموات والأرض يأمر نبيه أنْ يلينَ القولَ لكافرٍ بلغت به الوقاحة أن يقول ( أنا ربُّكم الأعلى ) ، لأن الغاية من الخلق العبادة ومآلها السعادة ورضاه سبحانه .

وأبتغي أنْ أُسَلِّطَ الضوء على الغاية أو الثمرة التي تُجنى من المحاورة ، مستعرضًا بعض الآيات الكريمة التي جاءت لهذا الغرض . وقبل هذا لا بدَّ من توطئة أبيِّن فيها أسلوب الحوار القرآني .

أولًا : أسلوب الحوار القرآني :

لا بدَّ من أنْ نضعَ نُصْبَ أعيننا الغاية من الخلق ألا وهي عبادة الحق تعالى، والنتيجة المتوخاة من هذه العبادة هي النعيم الأبدي ، إذ قال تعالى : ﴿ فأَمَّا الذينَ آمنوا وعملوا الصالحاتِ فهم في روضةٍ يُحبَرون ﴾ ( الروم / 15 ) ، وقد عبّر القرآن عن جزاء الإيمان بالله والعمل بتعاليمه بأنهم ( يُحبَرون ) ، والحُبُور                    (( السرور الشديد ، يقال : حَبَّره . إذا سرَّه سرورًا تهلل وجهه وظهر فيه أثره )) ([1]) ، فإن الغاية من الخلق هي الرحمة والسعادة .

ولا يخفى على ذي لُبٍّ مقدار الطمأنينة والاستقرار النفسي عند المؤمن ، وهذا الأمر ليس ضربًا من الخيال وإنما تصديقًا لقوله تعالى : ﴿ ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوبُ ﴾ ( الرعد /  28 ) .

ويتضحُّ لنا حالة التخبط والذهاب يمينًا و شمالًا عند مَنْ لا يلتجئ إلى الحق تعالى ، فهو حَيْران يعيش في قلقٍ دائمٍ ، ولذلك نجد كثيرًا من هؤلاء يعانون أمراضًا نفسيَّةً وعُقَدًا باطنيَّةً ، وأكثر ما يؤرقهم هو الموت ، لأنهم يرونه النهايةَ ، وأمَّا المؤمن فينظر إليه على أنَّه قنطرة ينتقل بها من الفناء إلى البقاء ، حتى صارَ المؤمن يلتذُّ بالموتِ ، فهذا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يُقسِم أنَّه يتنعم به ، فيقول (( واللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ ـ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه )) ([2]) .

فإذا كان مآل المؤمن سعادةً أبديَّةً ، وخلافه تعاسةٌ وخزيٌ دائمٌ ، فمن الرحمة الإلهية أنْ يُرسلَ مذكرين به تعالى ، حتى يدخلوا بذلك النعيم الأبدي .

لقد استعمل المرسلون أساليب منعدمة النظير في محاورتهم أقوامهم ، فقد أمرهم سبحانه (( بالرِّفْقِ في دُعَاء الخَلْقِ وحَضِّهِم على التَّلَطُّفِ بهم والصَّبْرِ على أذاهم )) ([3]) ، فعلى الرغم من عنادهم وأذاهم لرسل الحق تعالى فلم (( يقابلوهم بخشونة أو بأذى ، بل بالقول الصواب والمنطق الحسن الليِّن اتّباعًا للتعليم الإلهي الذي لقَّنهم خيرَ القول وجميل الأدب )) ([4]) .

وأدنى نظر في القرآن الكريم يتجلى هذا المعنى للقارئ كقوله تعالى :﴿ ادعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحَسَنَةِ وجادلْهم بالتي هي أحسنُ ﴾ (النحل / من الآية 125 ) ، ومن ذلك أنَّ الله تعالى لمَّا أرسل موسى وهارون لفرعون ومنعهما أنْ (( يكلماه بخشونةٍ وعنفٍ ، وهو من أوجبِ آداب الدعوة )) ([5]) . فلا يمكن استعمال القسوة أو الفضاضة والتهجم بالدعوة إلى رسالةٍ عنوانها مكارم الأخلاق .

ثانيًا : غاية الحوار القرآني :

وتتجلى بقوله تعالى : ﴿ اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ ( طه /43-44 ) ، فعلى الرغم من أنَّ فرعون ادَّعى الربوبية يأمر الحقُّ سبحانه رسولَيهِ أن يتلطفا بالقول معه ،فجاء بـ( لعل ) التي تفيد الترجي([6]) ، وهو ترقُّبُ أمرٍ محبوبٍ ، وتكون دلالة النص الكريم تذكّر فرعون وخشيته ممَّا يرجوه موسى ( عليه السلام ) ، فهو مبعوثٌ بالنور والهدى للناس ، على حين استشف الأخفش دلالة التعليل لـ( لعل ) ، فهو من المعاني التي يؤديها هذا الحرف ، فتقول : أفرغْ لعلنا نتغدى ، أي : لنتغدى . وقد فسَّر الكسائي والأخفش كل ما ورد في القرآن على معنى التعليل ([7]) ، فيكون المعنى  اذهبا إلى فرعون لتحقيق خشيته أو تذكره بالله تعالى ،

ويؤيِّد دلالة التعليل ما رواه المجلسي عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) بأن الله أمر موسى بأنْ يذهبا إلى فرعون ويقولا (( له قولًا ليِّنًا لعلَّه يَتَذَكَّرُ أو يخشى، وقد عَلِمَ أنَّه لا يتذكر ولا يخشى، ولكن قال الله ، لِيَكُونَ أحرصَ لموسى على الذهاب وآكدَ في الحجة على فرعون )) ([8]) ، وهنا يتجلَّى اللطف الإلهي بأن يعمَّ الخلق أجمعين ومهما يكن من أمرٍ فإنَّ التعليلَ يبيِّنُ الغاية التي من أجلها يتحاور موسى   ( عليه السلام ) مع فرعون ، وهو ما يرجو تحققه ، فَحَاوَرَ فرعونَ مُسَلَّحًا بالحُجَجِ والبراهين لإنقاذهم من الضلالة المؤدية إلى عذاب النار . 

وأما مضمون القول فروى العلامة المجلسي أنَّ الله أوحى لموسى أنْ قُلْ لفرعون : (( أجبْ ربَّك فإنَّه واسعُ المغفرةِ ، قدْ أَمْهَلَكَ طولَ هذهِ المدةِ ،  وأنتَ في كلِّها تدَّعي الربوبيَّةَ دونَه ، وتصدُّ عن عبادته ، وفي كلِّ ذلك تمطرُ عليك السَّماءُ  وتُنْبِتُ لك الأرضُ ، ويُلْبِسُكَ العافيةَ ، ولو شاء لعاجلك بالنقمة، ولسلبك ما أعطاك  ولكنَّه ذو حِلْمٍ عظيمٍ )) ([9]) . فأراد تذكير فرعون بضعفه وفقره وبنعم الله وقدرته عليه فعلى الرغم من كفره وادّعائه الربوبية فإن الله يُغدِقُ عليه نعمه ، وغاية تذكيره رجوعه عن غيِّه وإيمانه بالله تعالى . فإن الله يريد بالخلق اليسر ولا يريد بهم العسر ، وما إرسال المرسلين إلّا لتحقيق توبة العباد ، لتشملهم الرحمة الإلهية .

( [1] ) التحرير والتنوير ، الطاهر ابن عاشور 15/30 .

( [2] ) نهج البلاغة ، تح صبحي الصالح 51 .

( [3] ) ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل 1 / 194 .

( [4] ) الميزان في تفسير القرآن 1 / 82 .

( [5] ) المصدر نفسه 14/153.

( [6] ) ينظر : الجنى الداني في حروف المعاني 579 .

( [7] ) ينظر : معاني القرآن ، الأخفش الأوسط 2 / 443 ، والجنى الداني في حروف المعاني 580 .

( [8] ) بحار الأنوار 13/107 .

( [9] ) المصدر نفسه 13/ 63 . 

المرفقات

: الباحث/ أحمد راضي جبر : دار القرآن الكريم : مركز الإعلام القرآني