يواصل الكرباسي السَّفَر في سِفره الموسوعي عبر أروقة الفقه والتاريخ والأدب والسِيَر ليصل إلى المحطة السادسة في رحلته وهو الجزء السادس من موسوعته (الحسين والتشريع الإسلامي) المنضوية تحت عنوان (دائرة المعارف الحسينية) بعد أن استوفى في الأجزاء الخمسة السابقة الكثير من الأمور المهمة التي تغني القارئ بالثقافة الدينية والدنيوية السليمة القائمة على منهجية القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وروايات أهل البيت (عليهم السلام)، والتي تضمن للأمة الساعية إلى الرقي والتقدم في المجالات السلمية والتنمية البشرية التحضّر والتطوّر وتهذب سلوك الإنسان وتوجه رغباته نحو كل ما هو مفيد لأبناء جنسه.
في هذا الجزء ــ السادس ــ يُكمل الكرباسي ما بدأه في الأجزاء السابقة لتكوين رؤية فقهية عقائدية متكاملة تفصح عما يكنه من حب وإخلاص لدينه وعملاً بمفهوم ــ زكاة العلم نشره ــ لتأسيس جملة من الحقائق التي يستمدها من السيرة العظيمة لأهل البيت (عليهم السلام) وكذلك ما حفلت به حياتهم من الأحكام والدروس والمبادئ السامية.
يبدأ الكرباسي هذا الجزء بأحكام الجنائز وهي (متعددة ومتنوعة) وقد اختار منها أحد عشر حكماً (بوجود الدليل عليه من قبل الإمام الحسين عليه السلام) وهي: الاحتضار، والتشييع، والغسل، والكفن، والصلاة، والدفن، والترحم على الميت، وإقامة المراسيم، والقيام بما يجب القيام به من تنفيذ الوصية وما عليه من واجبات، وزيارة القبور وتعاهدها، والنياحة على الميت.
وينوّه الكرباسي إلى إضافته قسماً خامساً إلى الأقسام الفقهية الأربعة ــ العبادات والمعاملات والإيقاعات والأحكام ــ وهو قسم الإنجازات الذي فصّل الحديث عنه في الجزء الرابع.
في قسم (السقط) يحدد الكرباسي ــ بالأيام ــ المراحل التي يمرّ بها الجنين من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى إتمام العظام إلى شد اللحم إلى الخلق الآخر، ثم يفصّل الأحكام الشرعية الخاصة بكل مرحلة من هذه المراحل ويتخلص إلى أن (السقط ما لم تتم خلقته فلا يكون بشراً سوياً حتى يتحقق عليه غسل الميت).
أما في غسله فقد استند الكرباسي على رواية الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا سقط لستة أشهر فهو تام وذلك أن الحسين بن علي ولد وهو لستة أشهر) وروايته (عليه السلام): (السقط إذا تم له أربعة أشهر غسِّل) ثم يتوسع بالحديث في سند هاتين الروايتين ورجالهما وآراء باقي المذاهب الإسلامية في ذلك والحكمة العلمية المتطابقة مع الحكم الشرعي.
أما بالنسبة (لغسل الميت المُحْرِم) فيبين الأحكام الخاصة به وكيفية التعامل في غسله استناداً إلى روايات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وتتلخص هذه الروايات بحرمة استخدام الكافور في غسل الميت المحرم وتحنيطه بإجماع علماء الإمامية ثم يتطرق الكرباسي إلى آراء باقي المذاهب الإسلامية في ذلك.
أما (الدعاء عند القبر) فقد ناقش الكرباسي الأحاديث المتعلقة بهذا الباب من كتب الفريقين، وعرض أسانيدها واتفاقها على جوازه واستحبابه، والحكمة الشرعية والعلمية منه، وما يناله الميت والداعي من الخير والثواب، وما يجلب للداعي من راحة للنفس بعد فراق الأهل والأحبة.
أما شق الجيب (وهو تمزيق الثياب) من أثر الحزن على الميت، وخمش الوجوه بالأظافر، ودعاء الإنسان على نفسه بالويل والثبور، فهي من مظاهر الحزن التي كانت معروفة في الجاهلية وقد (ألغى الإسلام أكثرها وترك بعضها بعد أن شذبها).
ثم يفصل الكرباسي كل مظهر من هذه المظاهر وحرمته وجوازه ومكروهه بعرضه على روايات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ويذكر روايات كثيرة في ذلك ويناقشها سنداً ومتناً ورجالاً ويتخلص بالقول:
(فالحاصل: إن الدعاء بالويل والثبور غير مرغوب به شرعاً، وأما البكاء والحزن بشكل عام ما لم يخرج عن حده المتعارف فهو أمر لم ينه عنه الشرع الشريف وإن كان الصبر بالطبع أفضل لمن هو قادر على ذلك، لأن الحزن والبكاء وبعض ردود الفعل أمر طبيعي لا يمكن للشرع تحريمه حيث هي خارجة عن الإستطاعة ومن تمكن فإن له أجر الصبر الجميل، وأما الدعاء على النفس بالويل والثبور فهو في دائرة الاستطاعة).
أما بخصوص النياحة وأنواعها وأحكامها وشرائطها فيستعرض الكرباسي الروايات الكثيرة والمتباينة في ذلك ويفصل الحديث عنها ويوازن بينها ليكشف أن: (الأخبار المشيرة إلى الجواز أكثر وثاقة من الأخبار المشيرة إلى النهي)، وبعد أن يستعرض آراء السنة المختلفة يستنتج من أقوال الفريقين الحاصل بأن: (البكاء المعتاد على الميت ليس فيه حزازة بل مباح إن لم نقل فيه أجر وثواب، وأما الجزع وشق الجيب والعويل وما فيه من قول قبيح ففيه إشكال وهذا هو فعل الجاهلية، وأما مسألة النياحة بصورتها المصغرة فلم يمنعوا من ذلك).
وفي قسم (قيام المؤمن لجنازة المخالفين) يقدم الكرباسي ــ كعادته ــ مختلف الروايات والآراء في ذلك ويناقشها نقاشاً علمياً دقيقاً، ثم ينتقل إلى كتاب التجمل الذي يتفرّع إلى تسعة أقسام هي: الخضاب، والتختم باليسار، ونقش الخاتم، والتختم بالعقيق، ولبس الخز، ولباس الشهرة، والحجاب، والفراش، والتجمل في العيد، وفيها يطرح الكرباسي النظرة الإسلامية الوسطية التي تقوم على مبدأ (لا إفراط ولا تفريط)، كما يستعرض كثيراً من الروايات والشواهد والقرائن على ذلك، ويختم مباحثه التسعة بالحكمة الشرعية في التزين في الإسلام بما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وغيرها من الآيات الشريفة بأن (الإنسان يتفاعل مع ما يسره ويكون أقرب إلى الله وإلى طاعته إذا ما كان مسروراً والزينة هي إحدى الوسائل التي تدخل السرور على قلب المؤمن)
يصل الكرباسي برحلته هذه إلى واحة الفقه النضرة ويكشف عن كل اتجاهاتها ببوصلته العلمية ليواصل رحلته عبر موسوعة علمية أخرى
اترك تعليق