الحسين والتشريع الإسلامي / الجزء الخامس .. ضوء على مسيرة الفقه

بيئة الكاتب جزء من تجربته ولا مفرّ له من الاستجابة لاتجاهات العصر الذي يحتويه، فبقدر حاجته في الاستقاء من موروثه وما حصل عليه من دراسته واستيعابه لها، فإنه يضيف إلى ذلك بما يستخلص من التقاليد المرعية والأحكام والنظريات السالفة ومدى معرفته بالطبيعة البشرية، إضافة إلى ما يستمده من العقائد السائدة والآداب الغالبة فهو يستفيد من تجاربه وعقائده ومألوف نظراته الأخلاقية، ويستمد كذلك من إتجاهات عصره ومدى تأثره به، وهو يضيف إلى هذه المادة المتجمعة عصارة ذهنه ويستغل كل قواه الفكرية ليلقي منها الضوء على التجديد، فهو لا يقف في الميدان منفرداً وإنما يتطلع الى ما حوله ويأنس بما يرتاح إليه ويستصوبه من الآراء والمعتقدات ومختلف الاتجاهات ويتخطى أسوار التقليد والمحاكاة ويتوغل في روح العصر برؤية القدرة والابتكار.

هذا المزيج من الخزين الثقافي الذي أكسبته البيئة والالمام الواسع بالموضوع وجوانبه وتشعباته والآراء والنظريات القديمة والحديثة فيه اجتمع عند الكرباسي في كتاباته الموسوعية والتي ضمتها (دائرة المعارف الحسينية) فقد كان لأسرته العلمية وبيئته الكربلائية الدينية الأثر الكبير عليه كما نجد بصمته العلمية المستقلة واضحة على كتاباته وقد استقرأنا في الحلقات السابقة الأجزاء الأربعة من موسوعته (الحسين والتشريع الإسلامي) والمراحل التي مر بها والآراء والمدارس الفقهية وفي هذا الجزء وهو الخامس نسلط الضوء على المسيرة الطويلة لتاريخ الفقه

يتتبع الكرباسي مراحل الفقه ويترك لنا الشواهد الكثيرة على مباحثه باستناده إلى القرآن الكريم وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وروايات أهل البيت (عليهم السلام) ويتوسع في البحث والتقصي فهو ويمعن في الملاحظة ويفصّل في الحديث والعامل الهام هو كيف تناول الموضوع الذي طرحه وكيف أفاد منه وأنماه وزاد عليها بتعليقاته

يفتتح الكتاب بقسم الفقه بكتاب (الطهارة) الذي يتفرع إلى خمسة أبواب هي: تطهير الخبز الملوث وحكم اللقمة المتنجسة والجنابة والمسجد النبوي ودخول غير المتطهر على المعصوم والطلي بالنورة وقد استوفى الحديث عن هذه الأبواب بعرض الروايات عن الأئمة المعصومين من الكتب المعتبرة والأسانيد الصحيحة، والإشارة إلى ما قد يكون في هذه الروايات من إرباك وأخطاء ثم يستكمل ما قد ينقص الموضوع من دعم وتأكيد

وفي الكتاب الثاني (الولادة) والذي يتفرع إلى عشرة أبواب تتعلق بالمولود وهي: تأذين المولود وتحنيكه وتعويذه وعقيقته وحلق شعره وتسميته والتهنئة به والإطعام لأجله واللعب مع الأولاد وعطاؤه. وأول ما يلاحظ في الآراء التي طرقها في هذا البحث هو التشخيص الدقيق للأعمال التي تقام بهذه المناسبات ودعمها بالأحاديث والروايات.

فيفصل في الحديث عن هذا الموضوع لغة واصطلاحا ثم يتطرق إلى (الفرض والندب) التي ترتبط بها وما بعدها إضافة إلى ذكر الأعمال المحرمة والمكروهة فمن الآداب والسنن التي يجب أن تتبع في هذه الحالة هي: استمداد المرأة بالنساء أي أعانتهن لها على الولادة وتلبية احتياجاتها، وقطع سرة الطفل من الحبل السري، وغسل المولود حين الولادة، ولفه بخرقة بيضاء وتلاوة الأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى.

ثم يعود الكرباسي إلى أصل الموضوع وهو (الحسين في التشريع الإسلامي) فيذكر الأعمال التي قام بها صاحب الشريعة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في ولادة سبطه سيد الشهداء (عليه السلام) ويذكر روايات كثيرة من المصادر المعتبرة حول هذا الموضوع منها حديث النبي (صلى الله عليه وآله): (من ولد له مولود فليؤذن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليقم في اليسرى، فإن ذلك عصمة من الشيطان الرجيم والإفزاع له)

أما التحنيك فقد ورد عن أمير المؤمنين قوله: (حنكوا أولادكم بالتمر فهكذا فعل رسول الله بالحسن والحسين) ثم يتطرق إلى أقوال العلماء في ذلك والمنفعة منه بمقارنته بالعلم الحديث.

أما بالنسبة للتعويذ وهو قول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فقد ذكر كثيرا من الروايات في ذلك عن طريق الفريقين ثم يذكر الحكمة الشرعية في ذلك وهي تتلخص بـ (إبعاد البلاء والأذى عن الطفل عبر التلقين النفسي وحصول الطمأنينة ثانيا) فـ (الطفل منذ أن يولد فإنه خير متلق للمعلومات عبر كل قواه الظاهرية الخمس، ومن أهمها السمع وإنه يخزن ذلك ويؤسس حياته عليها ويتفاعل معها وتنمو معه الفكرة بنموه جسديا وفكريا)

أما بالنسبة للعقيقة فيعدد الكرباسي عشرة شروط يجب توفرها في العقيقة مستندا في ذلك على روايات أهل البيت (عليهم السلام). منهالا مراعاة أن تذبح العقيقة في اليوم السابع من عمر المولود، وأن يذبح ذكر للذكر وأنثى للأنثى ويكره كسر عظام العقيقة وأن يطعم بها عشرة من المسلمين على الأقل.

أما الحلق فبعد أن يذكر الروايات المستحبة عن النبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في ذلك ثم يعرض ذلك على العلم الحديث فتتجلى الحكمة الشرعية منه حيث يقول:

(وأما الحكمة العلمية من وراء الحلق، فإن عددا من الأطباء يرون أن الطفل عندما يولد لا بد من تطهيره بالمطهرات لإزالة المادة الشمعية التي تكسو رأسه، ومن المعلوم أن الماء أفضل المطهرات، وذلك لأن بعض الجراثيم تكون عالقة به، وربما كانت هذه المواد اللاصقة بجسم الطفل تجذب إليه الجراثيم الضارة بالصحة، ومن الطبيعي أن مثل هذه المواد موجبة لمزيد اللصوق بها وتكون مكمنا لها، وبما أن بشرة الطفل رقيقة وسريعة الإنفعال والتأثر بالذي ينزل عليها، وتتسرب سريعا عبر منافذ الشعر إلى البصيلات بسبب تلك الجراثيم الضارة، ومن هنا إذا حُلِق الشعر تخلص رأس الطفل من كل العوالق الضارة بالبشرة الناعمة)

ويواصل الكرباسي هذا النهج في المباحث الأخرى كالتسمية والتهنئة والإطعام واللعب مع الأطفال وعطاء المولود ليصل إلى نهاية المطاف

إن هذا الكتاب هو عبارة عن رحلة ثقافية موسوعية جلى فيها الكرباسي كثيرا من الأمور المبهمة ونفض الغبار عن كثير من الروايات والأحاديث والمعلومات المطمورة في زوايا النسيان أضاف إليها من علميته الشيء الكثير

 

 

كاتب : محمد طاهر الصفار