لا ينفك الشيخ العلامة المحقق محمد صادق الكرباسي دون أن يستوفي الحديث عن البحث وبلوغه الغاية منه وإعطائه حقه والافاضة فيه وإيضاح ما اشتبه منه وكشف الملابسات عنه للوصول إلى الحقيقة، إنه يبحث ويحقق ويدقق ويمحص ويوازن في الروايات ويميز بين المصادر وينقب في التواريخ قبل أن يدلي بقوله ليخرج معلومته كما يخرج الصياد اللؤلؤة من أعماق البحار.
إنه الآن يخوض رحلة أخرى في بحار الإمام الحسين (عليه السلام) عبر كتابه (الحسين في سطور) الجزء الثاني وهو من ضمن موسوعته الساحرة (دائرة المعارف الحسينية) والذي خصصه للأحاديث الشريفة والروايات المعتبرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) التي وردت في حق الحسين وفضله ومنزلته الشريفة
وكما في كل مباحثه يبدأ الكرباسي بتمهيد عميق ووافٍ حول المناقب والفضائل والفرق بينهما ثم يفصل الفارق بين الحديث والخبر أو الرواية والأثر، وعن الآلية التي اعتمدها في عرض الأحاديث والروايات فإنه قد اتبع مبدأ الحروف الهجائية، أما الغاية من كل هذا فيوضحه الكرباسي في عدة أمور منها أن الإمام الحسين (عليه السلام) وباقي الأئمة (عليهم السلام) هم أحق بالمديح، وإن ذكرهم ومديحهم هو إظهار حقهم وإبراز فضائلهم وإحياء أمرهم الذي طالما حاول أعداؤهم إخفاءه وتهميشه كما أن مديحهم (عليهم السلام) هو من باب المودة التي أمرنا الله بها بقوله عز وجل: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى).
يبدأ الكرباسي في نقل الأحاديث والروايات بحق الإمام الحسين (عليه السلام) عن النبي الأكرم، ثم الإمام أمير المؤمنين، ثم فاطمة الزهراء، ثم الإمام الحسن، ثم الإمام زين العابدين، ثم يتدرج في عرض الروايات الواردة في حقه على لسان الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين). وما من شك في أن الكاتب عندما يتناول حياة أي واحد من هذه الشخصيات العظيمة فإنه يعيش في عالم زاخر بالمآثر وهو يقف أمام شخصية تجلّت فيها أنبل الصفات البشرية التي تكون حافزاً روحانياً تجعله يعيش حالة السمو الروحي وهو يلج الى هذا المورد العذب.
ويوضح الكرباسي ذلك في الباب الذي أفرده لـ (تصنيف الحديث) وفيه يعرّف الأحاديث الصادرة عنهم (ع) ــ رغم كونها بشرية ــ إلّا أن (لها خلفية سماوية ترتبط في النهاية بمعانٍ تعترف بها السماء وإن كان عبر صياغة بشرية). فهي مستمدة في معناها من القرآن الكريم وهي صادرة من أناس أمرنا الله باتباعهم والعمل بأقوالهم وأفعالهم، وهذه الأحاديث (ــ كما في القرآن الكريم ــ فيها المحكم والمتشابه، وكما يحتاج القرآن إلى تفسير وتوضيح وتحليل فهي تحتاج إلى تفسير وتأويل ومصداق) كما ورد عن الإمام الهادي (عليه السلام) قوله: (إن لحديث رسول الله تأويلا) ويضرب الكرباسي ــ إمعانا في الايضاح والتبيين ــ عدة أمثلة على ذلك من الروايات المعتبرة عنهم (عليهم السلام).
فقد جاءت عدة روايات عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) تؤكد على أن الله تعالى قد خصهم بعلم لم يخص به أحداً من العالمين، ومن هذه الروايات ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله:
(إن عندنا سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، والله ما كلف الله أحداً ذلك الحمل غيرنا، ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا، وإن عندنا سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، أمرنا بتبليغه فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حمّالة يحملونه، حتى خلق الله لذلك أقواماً، خلقوا من طينة خلق منها محمداً (صلى الله عليه وآله)، وذريته ومن نور خلق الله منه محمدًا وذريته، وصنعهم بفضل صنع رحمته التي صنع منها محمداً وذريته، فبلغناهم عن الله عز وجل ما أمر بتبليغه، فقبلوه واحتملوا ذلك). وهناك كثير من هذه الروايات المشابهة
ويصنف الكرباسي الحديث إلى أربعة أنواع هي:
1 ــ القدسي (الإلهي) و(البشري) ومصدره الله تعالى والمعصوم.
2 ــ المتعلق بالنص إما محكم أو متشابه
3 ــ ما يتعلق بالدلالة وهو التفسير والتأويل والمصداق
4 ــ ما يتعلق بالسند وهو: أولا: باعتبار الوثاقة إما متواتر أو آحاد وإما مسند أو مرسل
أما المسند فله ثلاثة اعتبارات هي: كمي، كيفي، إسنادي
والأول: إما مستفيض أو مشهور.
والثاني: إما صحيح أو حسن أو موثق أو قوي أو ضعيف.
والثالث: إما مصرح أو مضمر
أما الضعيف فهو من أقسام الاعتبار القمي وهو إما مقبول أو مردود.
بهذا التصنيف الذي يدل على الالمام التام والاحاطة الكافية بعلوم الحديث وجوانبه وخصائصه وكل ما يتعلق به يشرع الكرباسي بخوض غمار الأحاديث القدسية والكلمات النورانية للأربعة عشر معصوما (صلوات الله عليهم) بعد أن ينقل ما ورد عنهم بخصوص الملائكة المحدقين بقبر الحسين، وخصائص التربة الحسينية، والروايات بشأن المساحة حول قبر الحسين (عليه السلام)
اقتصر الكرباسي في هذا الكتاب بذكر الأحاديث والروايات على المعصومين الأربعة عشر كونه قد خصصه لهذا الموضوع وقد أفرد أحاديث غيرهم في كتاب خاص بعنوان (قالوا في الحسين) وقد حرص على ذكر المصادر التي ذكرت الحديث أو الرواية وترك المكرر منها كما حرص على اختيار الأحاديث الصحيحة التي لا تنافي القرآن الكريم ولا السنة المقدسة ولا العقل ولا العلم.
ويلاحظ القارئ مدى أهلية الكرباسي في التصدي لهذا البحث من خلال الأحاديث المنتقاة التي اختارها بعناية تامة ودقة متناهية والتي تدلل على الجوانب العظيمة للإمام الحسين (عليه السلام) إضافة إلى اعتنائه في التبويب ووضع الحديث في موقعه الذي يناسبه، وقد بلغ عدد الأحاديث في الكتاب (1370) ألف وثلاثمائة وسبعون حديثا وهو عدد يبرهن على تمكنه وطول باعه في هذا المضمار.
إن هذا الكتاب يعد مائدة ثقافية دينية غنية بالمعلومات التي تغني القراء بمختلف مستوياتهم كما يعد مشروع (تأصيل) لفكر أهل البيت (عليهم السلام) و(تأسيس) للتراث الحسيني العظيم.
اترك تعليق