هند بنت زيد بن مخرمة الأنصارية .. دمعة على خد القمر...

هل هي الأقدار تلعب لعبتها ؟

أم هي دورة الحياة تدور لترفع وضيعاً، وتضع شريفاً ؟

أم هو التاريخ يهزأ بالقيم ليقول للأجيال: إن الصراع لم ولن ينتهي بين روح الفضيلة وسنْخ الرذيلة ؟

هل هي الصدفة وحدها تلك التي شاءت أن يقتل حجر بن عدي الكندي الصحابي الجليل والبطل الفاتح في الأرض التي أدخل إليها الإسلام وكان أول مسلم تطؤها أقدامه، أم أن هناك أيادٍ كانت لها مآرب في قتله بتلك الأرض ؟

هل بلغ حقد معاوية على الإسلام وأهله أن يختار الأرض التي فتحها حجر بن عدي وهي (مرج عذراء) وأدخل إليها الإسلام ليكون فيها مقتله انتقاماً منه لأشياخ الكفر من بني أمية الذين قُتلوا في بدر وأحد ؟

ها هو حجر بن عدي الكندي مع أصحابه الثلاثة عشر وهم مقيّدون بالأغلال على تخوم الكوفة وهم يسيرون إلى مصارعهم وقد أرخى الليل سدوله، فلا يرى إلا أشباحهم التي أسقط عليها القمر المنير خشوعاً وهي تسير خلفهم ببطئ شديد وكأنه يستقبلها فتختفي وسط هالته.

عينان كانتا تراقبان هذا المشهد الحزين من فوق سطح أحدى دور الكوفة وهما تذرفان الدموع على هذا الصحابي الجليل وأصحابه وهم ذاهبون لاستقبال المنايا بقلوب طاهرة مطمئنة ونفوس خالصة الولاء واليقين على ما مضوا عليه.

كانت تلكما العينان هما عيني السيدة هند بنت زيد بن مخرمة الأنصارية وهي من نساء الشيعة في الكوفة والتي بقيت تتابع سير حجر وأصحابه تحت ضوء القمر فيطرق سمعها صوت الأغلال حتى اختفوا في الظلام..

كانت لحظات تراجيدية مأساوية لا يمكن أن توصف، وقفت هند وهي تذرف دمعها على حجر وتطلق زفرة وبكاء وكأنها تعلم أن حجراً لن يعود إلى الكوفة بعدها، فرددت هذه الأبيات الضاجّة بالبكاء:

تـرفّـعْ أيـهـا الـقـمـرُ المـنيرُ     تبصّـرْ هل ترى حِجْراً يسيرُ

يسيرُ إلى معاوية بن حـربٍ     لـيــقـتـلـه كـمـا زعـمَ الأميـرُ

ويصلبه على بابـي دمـشـقٍ     وتـأكـلُ مـن محاسـنهِ النسورُ

تجبّرت الجبـابرُ بعد حـجـرٍ     وطابَ لها الخورنقُ والسديرُ

وأصبحت البلادُ بها محـولاً     كأن لم يـحيها مـزنٌ مـطـيـرُ

ألا يا حِجر حجرُ بني عدي     تلـقّـتـكَ الـسـلامـةُ والـسـرورُ

أخافُ عليكَ ما أردى عديـاً     وشيخاً في دمـشـق لـه زئـيـرُ

يرى قتلَ الخيارِ عليه حـقـاً     لـه مــن شـــرِّ أمــتـــه وزيـرُ

ألا يا ليتَ حجراً ماتَ موتاً     ولم يُنحرْ كـمـا نُحرَ الـبـعـيـرُ

فـإن تهلكْ فكل زعيـمِ قــومٍ     مـن الـدنيا إلى هـلـكٍ يـصيـرُ

فرضـوانُ الإلـه عليكَ ميـتاً     وجــنــاتُ بـهـا نِـعـمٌ وحــورُ

تخيّلت هند قتله فصورته قبل أن يكون، فوصفته وهو مصلوب على باب دمشق والنسور تأكل جسده !

ورغم أنه لم يصلب بل قُتل قتلة أبشع من الصلب بكثير حيث قيل إنه دفن حياً مع أصحابه، إلا أن الصلب كان عادة معاوية وبني أمية وبشاعتهم في التلذّذ بالتمثيل بالقتلى وفصل الرؤوس وصلب الأجساد وهي معروفة لدى أهل الكوفة وغيرهم.

وهذا ما يلاحظ في هذه المرثية حيث تعدد هند بعض الأسماء من ضحايا بني أمية كعدي وشخص آخر وصفته بالشيخ ولعله عمرو بن الحمق الخزاعي الذي قتله معاوية قبل حجر وحُمل رأسه على الرمح فكان أول رأس يرفع في الإسلام على رمح.

كانت تتخيّل تلك البشاعة بالقتل تجري على حجر فتتمنى أن يموت موتاً طبيعياً ولا يعاني تلك الآلام ثم تُعزّي نفسها بأن كل (زعيم قوم) مصيره الموت وإن الله سيعوضه عن هذه الحياة الفانية برضوان منه وجنات تجري من تحتها الأنهار.

كانت هند شاعرة من شواعر العرب، تمتاز بحسن الرأي، وجودة البيان، والفصاحة، اتصلت بأمير المؤمنين، وكان لها مواقف مشرقة معه وعرفت بمراثيها لأصحابه الشهداء تضمنها تنديدها الشديد بسياسة معاوية.

جاء ذكرها في المصادر والسير بما نصه:

كانت أحسن نساء زمانها جمالًا، وأوفرهن عقلًا وكمالًا، وأفصحهن منطقًا ومقالًا، لها مقالات بليغة وأشعار بديعة، وكانت مع ما هي عليه من التنعم ثابتة الجنان، قوية البنية، جريئة على الحروب. حضرت جملة وقائع مع أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، لأنها كانت من شيعته، وكانت لها غيرة شديدة على علي وأصحابه، وكان كل من قتل ترثيه بمراثٍ جيدة، وتُحرِّض القوم على اتباع خط عليٍّ، وطالما أراد معاوية أن يُوقع بها، ولم يتيسر له ذلك. (1)

ولم تكن تلك الأبيات هي الوحيدة التي رثت فيها هند حجراً فقد رثته بقطع شعرية ملتهبة أخرى منها:

دمـوع عـينـي ديمـة تـقطرُ     تبـكي على حجر ولا تفتري

لو كانت القوس على أسرة     ما حملَ السـيف إلى الأعورِ

ومنها قولها:

لقد ماتَ بالبيضاء من جانبِ الحمى    فـتـىً كـان زيـنـاً لـلـكـواكبِ والشهبِ

يـلـوذُ بـه الـجـاني مـخـافة ما جنى     كما لاذتِ العصماءُ بالشاهقِ الصعبِ

تـطـلّ بـنـاتُ الـعـمِّ والـخـالِ حوله     صـواديَ لا يـرويـنَ بـالـبـاردِ الـعذبِ  

كانت هذه القطع الشعرية لوحات مأساوية ناطقة ضمّها متحف التأريخ ليحكي للأجيال بشاعة الجرائم التي ارتكبها معاوية بحق الإسلام وصحابة رسول الله الأجلاء.

......................................

1 ــ الدر المنثور في طبقات ربات الخدور ــ زينب بنت علي فواز ج 2 ص 405

البداية والنهاية - ابن كثير ج ٨ ص ٥٩

أعيان الشيعة ج 10 ص 272

الأغاني ج 17 ص 132

المرزباني ــ أخبار شعراء الشيعة ص 45

عمر رضا كحالة ــ أعلام النساء ج 5 ص 234

شاعرات العرب ــ بشير يموت ص 462

الكامل في التأريخ ــ ابن الأثير ج 3 ص 487

 

 

المرفقات

كاتب : محمد طاهر الصفار