دُرَّة العلماء ..الحزينة

فامسـكي بـالعـروةِ الوثـقـى الـتـي     إن تـمـسَّـكـتِ بـهـا نـلـتِ الـظـفرْ

سـادةٌ قــد طـابـتِ الأرضُ بــهــم     حيث ما ينحونَ من رجسٍ.. طُهُر

فـي دجـى لــيــلٍ وأفـــقٍ مــظـلـمٍ     بعضهم شمـسٌ وبعضٌ كـالـقـمـرْ

فـي ســمـاءِ الـمــجـدِ أنـوارٌ بـدتْ     أنـجــمٌ تـعـــدادُهـا اثــنـي عـشـرْ

هـمْ أمـانُ الـخـلــقِ طــرَّاً كـــلّـما     غــابَ نــجــمٌ منـهـمُ نـجـمٌ زهـرْ

هـمْ عــمــادُ الـديـنِ أنـوارُ الهـدى     مـن تولّاهـم نـجى مــن كـلِّ شـرْ

هـمْ ولاةُ الأمرِ بـعـدَ المـصـطـفى     بــولاهـــم كـــلُّ ذنـبٍ يــغــتــفـرْ

عن صراطِ الـحـقِّ مـن شـايـعهمْ     عـاجـلاً سهلاً بـلا خـــوفٍ عـبـرْ

خـاتـمٌ فـيــهـم كـخــتــمِ الأنـبـيـاء     مــعــلــنُ الــحـقِ وقـتّـال الـكـفـرْ

هـو حـبـلُ اللهِ لـلـمـعــتــصـمـيـن     لــعــدوِّ اللهِ ســيــفٌ مــشــتــهــرْ

سيدي قد ذابَ قـلـبـي فـي هـواك     لا تـدعـنـي إنَّ دائــي ذو خــطـرْ

أنتَ حصنُ الله يا كـهـفَ الـورى     آيـة اللهِ وذكــــرى لـــلـــبـــشـــرْ

مــوتُــنــا فــيــكَ نــعـــيــمٌ دائــمٌ     وتـورِّيـــكَ مـــن الـــمــوتِ أمـرْ

فـمـتـى تـــظـــهـــر يـا سـيَّـــدنـا     أم مـتـى يــبـدو لـنـا مـنـكَ الأثـرْ

لـسـتُ أرجـو مـلـجأ من دونـكـم     فـي أمـوري ولــيـومِ الـمُـنـتـشـرْ

فـبـحـقِّ الـسـادةِ الـمـنــتـجــبـيـن     ربِّ لا تهـتـكْ عـيـوبَ المُسـتـتـرْ

بـيـنـنـا فــاجـمـــعْ وإيَّـــاهــم إذا     دنــتِ الآجــالُ مـــنّـــا وحــضـرْ

يا (حزينة) اصبري واستبشري     إن يـسـريـنِ لــيـــومٍ قــد عُــســرْ

لعل من أقل مقتضى الانصاف قبل أن نقف أمام هذا الطراز الشعري النسوي النادر والحديث عن خصائصه ومميزاته و(تفرّده) في الساحة الأدبية النسوية وأثره في محيط مجتمعه، أن نتساءل عن سبب التعتيم والتهميش الذي كان نصيبه ونصيب صاحبته ؟

إذ أننا لو بررنا ذلك بالظروف الاجتماعية وضغوط البيئة على الأصوات النسائية في فترات ما، فإن هذا الشعر يخرج من هذا المنحى ويصبّ في مجرى العقيدة الخالصة ويشكل إضافة مميزة إلى الأصوات النسائية الولائية الصادقة التي أفصحت عن مدى إيمانها وحبها لأهل البيت.

فإن مما لا شك فيه إن الشعر ارتبط على مدى أدواره السحيقة بالعقيدة، ونشأ في أحضانها وهو وسيلة نبيلة للارتقاء بالأهداف السامية والدفاع عن الحق، ويحتفظ التاريخ بأشعار نسائية كثيرة جداً حملت موضوعات إنسانية ودينية ورسالية موجهة وهادفة تعنى بقضايا الإنسان والحياة وتدعو إلى الحق والعدل وتمجد المبادئ الإنسانية العليا.

وليس أدل على ذلك من الأشعار التي أطلقتها سيدة نساء العالمين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء وابنتها السيدة الحوراء ونساء بني هاشم في الدفاع عن الإسلام كما هناك أشعار كثيرة للنساء المواليات اللاتي حملت أشعارهن رؤية عقائدية أفصحت عما تكنه قلوبهن من ولاء وإيمان وما أسسته من حقائق تستمدها من السيرة العظيمة لأهل البيت وما تستلهمه من الدروس والمبادئ السامية التي حفلت بها حياتهم .

لقد كانت هذه الأصوات الصادقة من أنصع ما أفرزته الساحة الأدبية لأنها انطلقت من مبدأ الحب الخالص، والحب هو المحك الأصيل للنفس للتعبير عن سجيتها وعمّا يختلج في حناياها من مشاعر، ففاضت هذه المشاعر ولاءً واخلاصاً وحزناً وأسى فبقي صداها في ذاكرة التاريخ والأجيال.

لقد حفرت تلك الأصوات أسماءها في لوح الخلود لأنها مزجتها باللوعة والحرقة فكانت مثالاً للصدق، وحتى تلك الأصوات النسائية التي لم يذكر التأريخ أسماءها فقد نقشت في روحه كلماتها ونصبت في فضائه صرحاً (لجندي مجهول) واتّحدت لتكوّن سورة الغضب الشعبي العارم على الظالمين والحزن الممتزج بالدموع على سيد الشهداء.

فقد رُوي إنه لما دخل بشر بن حذلم إلى المدينة ونعى الحسين بأبياته المشهورة ما بقيت في المدينة امرأة إلا خرجت وهي باكية فقالت امرأة لم يذكر لنا التاريخ اسمها وكانت تبكي على الامام الحسين وتقول:

نـعـى سـيِّـدي نـاعٍ نـــعـاهُ فــأوجــعَــا     وأمـرضني نـاعٍ نـعـاهُ فـأفـجـعَـا

فـعـيـنيَّ جُـودا بـالـمــدامـعِ واسـكُـبــا     وجُودا بدمـعٍ بعد دمـعِـكـمـا مـعا

على من دهى عرشَ الجليلِ فزعزعا     فأصبحَ هـذا المجدُ والدينُ أجدعا

عـلـى ابـنِ نـبـيِّ اللهِ وابــنِ وصــيِّــه     وإن كان عنّا شاحطَ الدارِ أشسعا

فرغم إن اسم قائلة هذه الأبيات قد خُفي عنّا إلّا أن صوتها اتحد مع الأصوات الأخرى وتشكل مع صفوف الأسماء الهائمة في حب الحسين، ومثل هذا الصوت هو صوت الشاعرة (درّة العلماء) التي أجحف التاريخ بحقها كثيراً 

الحزينة .. يعطينا هذا اللقب الذي أطلقته الشاعرة على نفسها دلالة واضحة على معاناتها وحزنها، ويشير إلى أن حياتها كانت مليئة بالنكبات والمآسي، كما نستشفّ من شعرها مدى الألم الذي كان يعتصر قلبها فلم تجد سوى الشعر لتعبر عما تعانيه من جوى فهو قنديلها الوحيد في عالم يسوده الظلام.

كانت تتأسى بمصائب المعصومين في مصائبها فلم تجد سواهم من تتلهف روحها الملتاعة إليه فصبّت التراجيديا العميقة في قصائدها فكانت عبارة عن آهة نابعة من القلب المفطور تقول في إحدى قصائدها:

ألا يا نديمي خَلّني في غلا صدري     ألمْ ترَ سيلَ الدمعِ من مُقلتي يجري

إلى اللهِ أشكو ما أرى مـن أحـبّـتـي     لياليَ تمضـي في الكـآبـةِ والـسـهـرِ

أبـيـتُ وأمـسـي بين أهلـي غريـبـةٌ     ودارُ أبي لي صارَ كالبدوِ في القفرِ

فـكـمْ جـئـتـهـمْ حـباً لـهـمْ وكـرامـةً     وكمْ رفضوني في الشدائدِ والغـمـرِ

فـكـمْ مـن بـلـيَّاتٍ أرى من جفائهمْ     وكمْ من مصيباتٍ يقلُّ لها صـبـري

فـكـمْ مـن نـهـارٍ ما تفرَّغتُ ساعةً     وكمْ من ليالٍ ما رقدتُ إلى الـفـجـرِ

وإن مُدَّت الأيـدي إلـيـهمْ بـحـاجةٍ     يـدي دون أيـديـهـمْ تُـردُّ إلى نحري

بـلا جهـةٍ مـن غـيـرِ أنّـي أحـبُّهم     ودادَ غـنـىً لا عـن تـمـلـقـةِ الـفــقـرِ

وإنـي بحـمـدِ اللهِ ذاتَ استطـاعـةٍ     ولكنْ من هجرانِهم كسروا ظهـري

لـداهـيـتي سَمَّيت نفسي (حزينةً)     سـمـومُ بـلـيَّـاتٍ أذوقُ مـدى دهـري

تـلامـذتـي إن تـسـألونـي عـبـارةً     لـكـثـرةِ أشجانـي أجيـبُ بـلا أدري

وكـنـتُ لغورِ العلمِ خـائـضـةً بـه     كما ينتقي الغوّاصُ الدرَّ في البحـرِ

فـربّـي كفيلي في الأمورِ جميعُها     عـلـيـهِ تـوكّـلـتُ وفـوّضـتُه أمـري

في هذه القصيدة عبرت عن الوحدة القاتلة التي كانت تعيشها، ويظهر أنها كتبتها في أواخر حياتها فهي تقاسي ألم الوحدة والغربة بعد أن عجزت عن خوض معترك الحياة فتقول:

الدهر أنزلني، ثم أنزلني، ثم أنزلني، حتى خوطبت بما يخاطب به المجوس واليهود وذلك بعد كبر سني وانحلال مفاصلي وانكسار عظامي وقد انعكس فيَّ قول رسول الله : الكبير في قومه كالنبي في أمته.

تقصد إن أمته كذبوه وحاربوه ككل الأنبياء ثم قالت:

يا ذلةً بعد عزٍّ كنتُ فيه مدى     سنينِ أعوامِ دهري لـيـتَ ما مضتِ

قد عشتُ دنيايَ أياماً قلائـلـةً     من بعد ما ضحكتْ يا طولَ ما بكتِ

فيا مجيب دعوة المضطر إذا دعاه استجب دعائي وعجل فنائي فلا صبر لي مما لقيت وألقى من أحبائي !!

لم تتحدث المصادر عن حياة درّة العلماء سوى ما جاء في ترجمتها في كتاب تراجم أعلام النساء ما نصه: درة العلماء العالمة العاملة الفاضلة الكاملة الواعظة القارئة العابدة الزاهدة ذات الأخلاق الملكية والصفات القدسية طائفة بيت الله الحرام، زائرة مدينة الرسول وقبور الأئمة الشهيرة بـ (خانم قراءت) والملقبة بالحزينة أعلى الله مقامها. (1)

ويعلل الأعلمي سبب تسميتها بـ (الحزينة) بالقول: ويظهر وجه تسميتها بالحزينة من أشعارها التي أنشأتها في أواخر ديوانها (ص 162) المطبوع سنة (1334هـ) بطهران وكانت في زمن السلطان ناصر الدين شاه.

وناصر الدين شاه كان ملك إيران من عام (1848م) وحتى (1896م) فهي قد عاشت في هذه الفترة ويظهر من خلال ترجمة الأعلمي أنها كانت على درجة كبيرة من العلم والأدب ويقاس علمها بعلماء عصرها كما نستشف من لقبها (قراءت خانم) أنها كانت واعظة مشهورة ويدلنا كذلك قولها في شعرها:

تلامذتي إن تسألوني عبارةً     لكثرةِ أشجاني أجيبُ بلا أدري

على أنها كانت تتصدّر مجلساً للخطابة والوعظ ــ ومن الطبيعي أن يكون هذا المجلس نسائياً ــ لكن التاريخ لم يحفظ لنا سوى بعضاً من شعرها ــ بالعربي والفارسي ـــ والذي كان كفيلاً بإيضاح بعض الجوانب من حياتها التي ملأتها الآلام والمآسي تقول في هذين البيتين الذين يضجّان بالألم:

يا حرقة ثقبتْ قلـبي ولـيـسَ لـها     مـعـالجٌ يتـداواهـا ومـلـتـئـمُ

حتى المماتُ بأحشائي جراحتُها     داءٌ يؤلّمُ روحي وهو مكتتمُ

لكنها كانت تجد في ذكر النبي وآله متنفّساً لها وسلوة عما تكابده من مشقات ومصائب، تقول في ذلك:

خـلـيـلـيْ ألا تـدنـو إلى عــيـنِ رائـقٍ     تـروَ بــكــأسٍ ســائــغٍ مُـــتـورِّدِ

وأنـزلْ بـهـذا الـدارِ وابــتـغِ مــنــزلاً     رفـيـعـاً وسـيـعـاً زاكــياً ذا تسدُّدِ

وجـالـسْ مع الأبـرار واذكـر هنا لهم     حـديـثَ حـبـيـبٍ مُــشـفـِقٍ مـتودِّدِ

فــطــيِّـبْ لــنــا نـفـسـاً بـذكـرِ نـوالِـه     وفـرِّج لـنـا هـمَّـاً بــبـشـرٍ مُـجـدَّدِ

هوَ الأصـلُ فـي الإيجادِ والكلُّ فرعُه     بـمـولـدِهِ كـان اصــطـفـاءٌ بـمولدِ

فـأحــمـد إن كـــان ابــن آدمَ صــورةً     ففي الصدقِ معنـىً آدمُ بنَ مُحمَّدِ

هـوَ العلمُ الـمأثـورُ فـي ذروةِ الـذُرى     هوَ العَمَدُ الممدودُ في كلِّ مرصدِ

هوَ الكوكـبُ الدُّريّ فـي وسـطِ السما     بهِ من مضلّاتِ الغـواشـيَ نهتدي

هوَ الأمـنُ والإيمانُ والكهفُ والهُدى     ومن جاءَ بـالـديـنِ الـقـويمِ المؤيَّدِ

وعـتــرتُـه خـيــرُ الـبـــريـةِ كـلـــهـا     همُ العروةُ الوثقى وقـصرُ المشيدِ

بـهــمْ فــتــحَ اللهُ الأمــورَ بــأسـرِهـا     على الخلقِ طراً بالهُدى المتـمـدِّدِ

فهمْ حُججُ الرحمنِ قِدماً على الورى     وفـيـهـمْ كـتابُ اللهِ حقـاً بـمـشـهـدِ

مـعـانـدُهـم لـو كانـتِ الأرضُ كـلها     لـه ذهـبــاً مـلآى ودَّ لـو افــتــدي

وشـيـعـتُـهـم يـومَ الـقـيـامـةِ حولـهـم     على سُرَرٍ مـسـتـبـشرينَ بـمـوردِ

لـهـمْ كـلّـمـا تـشهـى الـنفوسُ وكـلّما     تـلـذّ به الأبــصارُ فـي كـلِّ مزودِ

يـقـولـونَ أتـمـمْ ربُّـنــا نـورَنـا لــنـا     فـإنـا لهـذا الـيــومِ كــنّـا لنـغـتـدي

مـلائـكـةٌ يـسـتـقـبـلــونَ قـدومَـــهـم     يـرونَـهم الـغرفــاتِ دُرَّاً بـأعــمـدِ

يـقـولـونَ لمّا ينظرونَ بـوجــهِــهـم     سـلامٌ علـيـكـمْ بـالـنـعـيـمِ الـمُخلّـدِ

فـلا تـمـسـكنْ إلّا بـحـبـلِ ولائِــهـم     ولا تـذهـبـنْ عـن بـابِ آلِ مُـحمَّـدِ

كـفـاكَ بـذكـرِ الآلِ فـخـراً ونعـمـةً     (حزينة) قومي واشكري وتهجَّدي

كانت تتعزى بالموت ... وبرزت هذه السمة واضحة في شعرها بعد أن بخلت عليها الدنيا بالراحة، فنشدت الراحة الأبدية كما يلاحظ من ألفاظها الموحية ودلالاتها الحزينة والمفجعة التي تصيب القارئ بالذهول والحيرة لفداحة ما ألم بها في حياتها تقول من بعض قصيدة لها:

يا خليَّ البالِ أعـجـزتَ الـفِـكـرْ     صَمَّ عن غيركَ سمعي والبصرْ

هجتِ نارَ الـحـبِّ فـي وجـنـتِـنا     لِـنْ لـنـا قـلـباً قَـسِـيَّـا كـالحـجـرْ

أرجـعِ الـنـظـرةَ فــيـنـا مُـقـبـلاً     لا تـدعـنـا كـهشيمِ الـمُـحـتـضـرْ

ليسَ ينجـيـني من الـغَـمِّ سـوى     أجــلٌ جـــاءَ وأمــــرٌ قـــد قُــدِرْ

ضجَّت النفسُ من الموتِ أسىً     قلتها كوني كمنْ يهـوى الـسـفـرْ

إنَّـمـا فـيـهـا نــزلــنــا رُحـــلاً     لـيـسـت الـدُّنـيـا لنـا دارَ الـمـقـرْ

مـضـتِ الـناسُ على قـنـطـرةٍ     أنـتِ تـمـضـيـنَ عـلـيـهـا بـحـذرْ

لا مـنـاصَ الـيومَ مِمَّا نـزلـتْ     فـتـنــــاديـنَ بـهـا أيـنَ الـمَـفَـرْ ؟

وقد ذكر لها العلامة المحقق الشيخ محمد حسين الأعلمي الحائري قصائد عديدة في مدح ورثاء الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) باللغتين العربية والفارسية وقال في نهاية ترجمة الشاعرة:

وذكرنا بعض أشعارها في كتابنا دائرة المعارف في مواضيعها المختلفة بالمناسبة منها في ج11/ ص268 و275 وفي ج12/ ص 67 ــ 68 وفي ج16 من ص 180 إلى ص 239 في أحوال الحسين بن علي بن أبي طالب .(2)

...............................................................

1 ــ للشيخ محمد حسين الأعلمي الحائري ج 2 ص 72

2 ــ تراجم أعلام النساء ص 72 ــ 90

كاتب : محمد طاهر الصفار