في فن الخط تكتسب الحروف المكتوبة مكانة رمزية، لكن حين تفقد تحديداتها الخارجية يصبح القارئ مضطراً إلى اللجوء إلى خياله ليتمكن من فك الرموز لبلوغ المعنى الكامن في الكلمة )... هذا ما اكده مبدع اللوحة اعلاه في وصف اسلوبه الفني المبتكر، انه التشكيلي التونسي ( نجا مهداوي ) ، وهو خطاط وفنان تشكيلي ولد عام 1937م وامتهن الفن الذي اولع فيه منذ الصغر حتى تخرج من أكاديمية الفنون بروما ومن ثم مدرسة متحف اللوفر.
يلاحظ القارئ المتأمل العمل ذو اسلوب ملئ بالتجريد وبالدلالات اللونية توزعت بشكل مثالي ومتوازن، حيث نرى ان اللون الازرق المائل الى البنفسجي والذي يتغلب على الالوان الباقية اصبح كأنه ارضية لأشكال اللوحة، كذلك اللون الاحمر وبعض من درجات اللون البرتقالي الذي استخدم لإظهار بعض الأشكال، ونرى في هذا المنجز الابداعي ان هناك توزيعا دلاليا قصديا منسابا نحو بعد خيالي في تشكيل الحروف، فالشكل الحروفي الموزع في ارجاء اللوحة قد يمثل حركة ادمية وقد لون بالوان عدة منها اللون الاسود والاحمر، واللون الاحمر له دلالات ثورية وهو الاكثر قوة واكثر تأثيرا في النفس وهو يمثل من جانب اخر لون الحب للحياة والانسان، وميزت دلالة هذا اللون عن باقي الدلالات الاخرى اذ انها دلالة قوية تمثل نقطة ارتكاز لباقي الدلالات الملونة بالوان اخرى، والتي تخلق حالة من التخيل لدى المتلقي، ولا شك ان البعد النفسي لأي دلالة لونية في هذا العمل قد قامت بدور مهم في ارتباط باقي الدلالات فيما بينها وبالخصوص دلالة اللون الاحمر والبرتقالي.
عالج مهداوي اشكاله بمسحة تصميمية تجريدية دلالية مستثمرا فيها شكل الحرف العربي لتصل إلى بهجة لونية منطلقة على سجيتها ، وتغلب على لوحته هيئات الاشكال الهندسية وبشكل صريح وذلك ضمن توجهات الفنان لكسر رتابة الأشكال الهندسية والتخلص من سطوتها وسكونيتها، وهي في نفس الوقت محاولة لجعل السطح التصويري حقلاً تتشظى فيه الأشكال والألوان، ضمن توريات واستحضارات الهامية وشيقة ارتآها الفنان، فالمهم عند نجا مهداوي هو بناء اللوحة واستخدام اللون ، والحرف يكون احد مكونات اللوحة- ليس إلاّ - وبغض النظر عن مفهومه المقروء، فالفنان طرحه بشكل مغاير بغية تفجير طاقاته الابداعية اللانهائية فيتحول به السطح التصويري الساكن والحافل بالمساحة اللونية من الشكل الثابت إلى الشكل المتحرك، وفق آلية بارعة في جذب عين المتلقي وتحريك مدركاته العقلية ، وفق انشائية زخرفية لا تبتعد كثيراً عن ما موجود في البسط الشعبية والزخارف الموجودة على الملابس والابنية والأزياء العربية ، لكن الأهم عند مهداوي هو فتح مغاليق هذه الأشياء وتحويلها إلى عناصر إنشائية معاصر ة تكسر جمود الشكل التقليدي .
ان البنية السائدة في هذا العمل هي بنية هجينة تحاول المزج بين علامات مختلفة، ضمن أسلوبية تقترب إلى حد ما من أسلوب فن الكولاج ، فقد استثمر الفنان فاعلية التجريب تقنياً ليشظي بنية السطح التصويري ، وجعله مساحة تنتشر فيه العناصر بحرية دون الامتثال لقواعد المنظور التقليدي ، في محاولة الانفلات والتحول من الثابت إلى المتحرك ، مما جعل من عين المشاهد تجول بين الألوان والحروف التي شكلت السمة المميزة في معظم أعمال نجا مهداوي، فنجد الوان الأسود والأحمر والأخضر الزيتوني على وجه الخصوص تتشظى في أرجاء اللوحة وكأنها قطع صغيرة من ملصقات ورق الابرو الملون وهي موزعة بصورة اعتباطية مدهشة لا تخلو من جمالية عالية وحساسية مبدعة ، تستحدث نماذج مقترحة ذاتياً وحسياً وهي أقرب إلى التفكيك منها إلى التجميع .
وبذلك نجد في هذا العمل ملامح واضحة للتشظي من خلال غياب مركز الإحالة أو نقطة الجذب الرئيسية، وتشظي الألوان بمساحات مجزئة تتخذ من التفكيك الدلالي أسلوباً جمالياً، مما جعل العمل الفني يقترب من مفهوم اللعب الحر للدلالات الفنية والشكل المفتوح ، والذي يمتد إلى فضاءات أبعد من فضاء اللوحة المحدد، ويبدو ذلك واضحاً في إصرار الفنان على كسر المتعارف عليه لشكل اللوحة والانطلاق نحو مديات أبعد من ذلك ، وليس خافيا ان ما نجده في انفعالات مبدعة في هذا العمل واغلب اعمال مهداوي، انما هي انفعالات فكرية وجمالية ودلالات سريالية واضحة طوعت عن طريق الخيال وعالم الحلم المفعم بالبراءة والصدق تجسدت بمجملها في هذا العمل بالدخول إلى عالم الحلم، والخوض بشيء من اللاواقع الجميل.
اترك تعليق