دفعت عملية البحث عن الفرادة الاسلوبية في الفن العراقي الحديث كثير من الفنانين للولوج الى عوالم التقنية الفنية والاخذ بالتجربة الجمالية الى ابعد من صيغتها البصرية، اذ فاق ذلك التركيز على الملمس والذي شكل وعلى مستوى عالمي صورة جديدة للفن التشكيلي، وكل هذا تم من خلال تجارب العديد من فناني الغرب والمرجعيات المتراكمة، فما كان من تجربة رسام اللوحة اعلاه الا انه ينحى هذا المحنى، فالإتيان بتكنيك فني جديد يعكس طبيعة الملمس والتي كانت من السمات التي ركز عليها في خلق اسلوبه الفني، بغية الدخول في عالم جديد للصورة العراقية ذات النفس الحديث والانعكاس لطبيعة المادة و باطار محلي رائع.
اللوحة من ابداع التشكيلي العراقي ابراهيم العبدلي وكما معروف عن العبدلي انه لطالما انتج اعمالا تعكس ثقافته واهتماماته بالشكل والمحتوى، اذ تعامل مع المرئيات بلمسات انطباعية ذات تأثيرات معاصرة، واهتم بشكل خاص بالضوء والظل في لوحاته، وهذا ينم عن مدى احترافه الواقعي الكلاسيكي.
نفذت اللوحة بطريقة واقعية من ناحية المنظور وطبيعة الارض وبتقنية الزيت على القماش، وهي امتداد لفكرة المحلية ذات الاطار الحداثي فالموضوع يسحب المتلقي الى اجواء اللوحة العامرة ببساتين النخيل البصرية والطبيعة في الجنوب العراقي، وذلك واضح للعيان من خلال السمات التي تميز بها البناء الشكلي لمفاصل اللوحة مثل مياه النهر المتلألئة والقارب واشجار النخيل على جانبي النهر، اضافة الى محاولته الجادة بالمحافظة على خصوصية الطبيعة الجنوبية البصرية كدلالة على هوية العلامة التي تتمثلها هذه الاشكال، هذا فضلا عن الصياغة الفنية للعناصر اللوحة التي ارتكزت على تعبيرية اسلوبية في نفس الوقت كي تبدا هذه العلامة بالتحول باتجاه عالم فني متجدد رغم قراءتها الواقعية .
ولا نستطيع التغاضي عن الخاصية التي فرضت نفسها في اللوحة وهي طبيعة اللمسات اللونية التي تمايزت بلوحات العبدلي وتأسيس اسلوبه الخاص من خلالها، فالواقع عراقي واللوحة واقعية الا ان الدخول في الاسلوب الذي يعكس ذاتية الفنان هو الهدف الذي تحققه اللوحة، فالقدرة على التلوين والتخطيط و القابلية على تأسيس مناخ خاص به يبين درجة معرفة لوحاته دون النظر الى التوقيع اسفل اللوحة، فقد صور الواقع دون المساس بالقواعد الهندسية ووظفه لصالحه كي يؤسس حسا اسلوبيا من خلال تقنية اللوحة سواء الميكانيكية او اللونية، فقد كان امينا في النظر الى عراقية المشهد في ذات الوقت الذي يكون فيه هذا المكان مميزا بطريقة اسلوبية.
فيبدو ان الفكرة عامة كانت عند ابراهيم العبدلي من قبل لكن الفرادة تحققت في خلق اسلوب خاص به من خلال الواقعية ذاتها، فالذاتية التي طرحها الفنان كانت من خلال الخصائص الاسلوبية، فالأجواء عنده خاصة و تقنيته مميزة وعلى الرغم من مرجعيته الواقعية، الا اننا نلاحظ انه وضع بصمته العراقية على انه فن ينطق بالحداثة، فهي في الحقيقة ليست واقعية انطباعية بقدر ما هي واقعية عراقية، حقق بها اسلوبا خاصا به موضحا فيه بعداً جماليا رغم انطلاقه من الواقع والبقاء فيه، فلو دققنا في اللوحة اكثر لوجدنا انها تحمل تركيبة خاصة في انشاء اللوحة وطريقة اداء، شكلتا بدورهما فرادة العبدلي الاسلوبية، فضلا عن تأكيده من خلال ذلك على كل ما ينطق بهويته العراقية في محاولة لإظهارها للعيان، فالعلاقة بين الموضوع والتقنية شكلا شيئا له خصوصيته في الحداثة العراقية فالشكل تأسس بطريقة ابداعية شكل ريادته الجمالية منطلقا من عراقية الموضوع وحداثة الشكل وخصوصية الاسلوب، اضافة الى توظيف الخامة في تحقيق رؤياه الذاتية المتمفصلة في الحداثة عند واقعية المرجع وخصوصية الاسلوب.
وهنا نستطيع الرجوع الى بداية الخطاب الفني الواقعي والرجوع الى رائد الفن العراقي الواقعي عبد القادر الرسام الذي درس الفن في استامبول وكان على محك ومقربة من التيارات الفنية الاوربية الحديثة ولكنه اختار الاسلوب الواقعي الذي تميل اليه نفسه وتطمأن، فرسم مناظر من بغداد ودجلة ونخيلها واهلها وخيام معسكراتها وماشيتها .. وها هو ابراهيم العبدلي يعيدنا الى تلك الذاكرة الجميلة و المشاهد الشعبية او الطبيعية العراقية التي تحمل روح الاصالة والجمال فعندما يرسم المواضيع العراقية الهوية وكل ما له صلة بالتراث فانه يشعر بالانتماء والاصالة والهوية و الانسانية.
وهنا نجد صورة متجددة اخرى لتشكيل التراث وفق اطار حديث ولكن بصيغة جديدة لها ابعاد اسلوبية، اذ ان الاسلوب هو الذي أصبح متفردا في صياغة الحداثة فريادة الاساليب هي من شكل تنوعات فنون القرن العشرين وهي التي خلقت الشكل الابداعي في الفن العراقي الحديث وما بعده، فهناك ريادة في التعامل مع الشكل وكذلك صيغة البناء التعبيري والواقعي لخلق خصوصية اسلوبية ميزتها الحداثة وهي منطلقة في نفس الوقت من وسط واقعي عكس روحية الذات العراقي لتشكل صورة من صور الرسم الحديث في العراق.
اترك تعليق