اللوحة احدى التشكيلات الابداعية للفنان العراقي الرائد نوري الراوي، الذي تميزت اعماله بأسلوب خاص يجسد مدى افتتانه بإرثه الحضاري وبيئته العراقية و العربية الحالمة، التي ألهمته امكانية الوصول لهذا الاسلوب الفريد من الرسم التعبيري، واستطاع فيه الجمع بين الواقع والخيال.. بأشكال القباب والمآذن والشرف والشبابيك المقوسة والنواعير واجزاء مختلفة من مدن احلامه ومخيلته الفنية المحملة بإرثه الحضاري الرافديني الزاخر بالألوان الزرقاء والخضراء والاشكال لذهبية الساحرة، حيث ارتكز على ان يجعل من صورة القرية العراقية هي المغذي الاساس لتجربته البصرية، تلك الرؤية التي لم يغادرها حتى في احلامه رغم انها بيئة عراقية الا انها طبعت صياغته الاسلوبية حيث ما زالت الاقواس والقباب والمآذن جزءا من المعمار الشكلي والذي حدد صيغته الاسلوبية.
رسمت اللوحة بمادة الزيت على القماش ويرى الناظر فيها بيوت قد رسمت بطبيعة معينة يختص بها مكان ما في العراق فوجود شكل الناعور مع التأمل في الاشكال الاخرى المرسومة بهيئة قرية، نجد انها تتطابق وجمال طبيعة الاماكن في المنطقة الغربية من البلاد وخصوصا في منطقة عانه و راوه المميزة بطبيعتها الهندسية، فألى جانب النواعير المثبتة على اطراف نهر الفرات توجد القباب المتكررة وهي احدى سمات بيوت هذه القرية والغالب عليها اللون الابيض ان المنظور يعكس هندسية المكان ولكن الاكيد انها ليست هندسة واقعية بقدر ما اضاف اليها الفنان رؤيته فتحور المكان وفقا لتلك الرؤية وليس وفقا لطبيعة المكان نفسه. بالرغم من وجود عمق هندسي واضح الا انها لا تعكس نفسها على انها لوحة واقعية. فالفنان مصر على ابراز هوية المكان ولكن وفق ما يرتأيه، فأن العامل الذاتي خلق طبيعة لها علاقة بالأسلوب اكثر من كونها طبيعة تصويرية، مع الحفاظ على روح الحس الذي يتمثل من خلال اجواء اللوحة نفسها في محاولة لخلق جو فيه شيء من الشاعرية وما ان يحدث هذا حتى يكون هناك بعداً عاطفياً وهذا ما تذهب اليه اللوحة من خلال اجواءها الصامتة وكأن هذه القرية قد خلت من اهلها وحتى الاشجار فأنها اشجار نوري الراوي.
المكان المجسد في اللوحة بمجمله صادر ليمثل مكانه الفني بالرغم من ان المفردات لا زالت تحتفظ بواقعيتها ورغم التحوير الذي يذهب حتى الى اجزاء اللوحة الاخرى، فالمساحات ما هي الا عبارة عن اشرطة ومساحات لونية متموجة، وهو نوع من التأكيد على خلق او تكملة المناخ المهيمن على اللوحة وفي بعض الاماكن هناك كتابات باللغة العربية كأن تكون نصوص دينية او شعرية وهذا تأكيد على هوية اللوحة، فاللوحة عراقية من حيث المكان وتنتمي الى اجواء اسلامية من حيث النص الذي يدخل لتأكيد اللوحة.
ان اسلوب الفنان لم يشهد تحولات كبيرة بقدر ما كانت تأكيداً على طبيعة الاسلوب والاصرار على خلق البعد الجمالي منطلقا من الانتماء المكاني. فالتراث حاضراً لتأكيد الهوية فما الكتابات والناعور والقباب الا ذلك الشكل من التراث العراقي. والعلامة او الشكل الاكثر تقريبا للمكان كانت مفردة الناعور. فالناعور وبشكله هذا لا يتوفر الا في هذا المكان، فالفنان اصر على الذهاب الى القرية ذاتها ولم يكن الهدف بأنه مكان ما في العراق، وهذا كله كان بمساعدة تلك الاجواء التي طالما يدخل ضمنها اللون البنفسجي وخلق اجواء ليست بالمشمسة قد تكون ليلا الا ان وضوح الاشكال يجعل منها اجواء فنية اسلوبية اكثر منها واقعية، فالخطاب عند الراوي هو ان يعكس جغرافية المنطقة لصورة الانسان مما اضفى على اعماله بعداً فلسفياً اختص به دون غيره، فالتعبير لا يخلقه البصري بقدر ما يكون نتاج تأويل لذلك البصري وبالتأكيد فالفنان نوري الراوي لم يذهب بعيدا عن فكرة ربط التراث او المحلية بالمعاصرة.
ومن هنا فأن الهدف المكاني كان يقوم على هدف اسلوبي لتأكيد هوية المكان في اللوحة وهوية الفنان كأسلوب، الا ان المميز في الموضوع والمتمثل بشكل الناعور، الذي عُد اساساً لتحديد كل هذه الاشياء التي وجدناها في سياق الاشكال العراقية وهي البحث في الاساليب الفردية وهي جزء من التشكيل الريادي في القرن العشرين في العالم وليس العراق فحسب من خلال التوظيف الرمزي للموضوع وخلق بعض الاضافات ضمن تحولات الاساليب في الفن العراقي.
اترك تعليق