الحسين.. منهج الإباء

الحسين لا يعني اسم شخص خرج على الظلم فقط, إن الحسين هو رمز عميق الدلالة, رمز للحرية والكرامة, رمز للبطولة ولكلمة الحق, رمز للإنسانية والأمل, رمز لكل قيم السماء، ولم تكن ثورته صراعاً بين قوى الخير وقوى الشر فقط, بل هي في الواقع صراع بين القيم الإنسانية العليا وبين رواسب الجاهلية السفلى. صراع بين رسالة السماء وعبادة الأصنام، بين الأنبياء وعبدة العجل، بين الإصلاح والإفساد, بين الفضيلة والرذيلة، بين النبل والخسّة، بين الشرف والإنحلال، بين السمو والوضاعة. 

جَسّد الإمام الحسين في سيرته المعطاء مبادئ الإسلام المحمدي الأصيل بأروع صورها وهو يعلن ثورته من أجل تحقيق القيمة الحقيقية للإنسان وحفظ إنسانيته وكرامته.

الحسين هو سفر عظيم من التضحية والفداء والبطولة والإيثار، ترك إرثاً عظيماً لم يترك مثله عظيمٌ غيره في أمته، هذا الإرث الذي فاض بنميره على البشرية حتى أغدقها فكراً وعطاءً وغمرها نوراً وحياة فأينعت به الضمائر واخضرّت به القلوب في دوائر الجهات.

قال المستشرق البريطاني السير آرثور ولستون: (لم يشهد العالم قط رجلاً هالت عليه مثل تلك المصائب والآلام من العطش والجوع وعدم الاستقرار، ومع هذا فقد قاوم وواجه هذا الكم الهائل من الأعداء في تلك الصحراء العربية ذات الحرارة الشديدة.

نعم، كان ذلك هو الحسين الذي تمكن أن يقاوم العدو، وهذه علامة بارزة مميزة، تدل على علو معنوياته، وصفاء ذاته، وقد عمل بصدق بكل ما يعتقد به، ودافع عن أهدافه بكل إخلاص

وكان في الصبر والاستقلال والأخلاق وفي كل ممارساته المثل الأعلى الذي لا يضاهيه أحد، ولذلك يمكن القول بأن الحسين بحد ذاته كان معجزة، وهذا الإنسان هو الذي تفتخر به العلماء في كل العصور، وتتحدث عنه، والأهم أن العالم لم يتعرف على شخصية شجاعة غيره).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: (سيد أهل الاباء، الذي علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف، اختياراً له على الدنية، أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، عرض عليه الأمان وأصحابه، فأنف من الذل، وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان، إن لم يقتله، فاختار الموت على ذلك).

وقال المؤرخ الإنكليزي إدوارد جيبون: (إن مأساة الحسين المروعة بالرغم من تقادم عهدها تثير العطف وتهز النفس من أضعف الناس إحساساً وأقساهم قلباً، ففي تاريخ الإسلام وبخاصة ما يتعلق بسيرة الإمام الحسين وموقفه الفريد والذي لا يمكن لأي كان انتهاجه أو حتى التفكير بالقيام به، فلولا شهادته لكان الإسلام قد انتهى منذ أمد بعيد حيث كان منقذاً للإسلام وبفضل شهادته مد الإسلام جذوره بشكل عميق إذ لا يمكن هدمه ولا حتى التخيّل بهدمه أبدا)

وقال الأديب اللبناني بولس سلامة: (لم يقم في وجه الظالمين أشجع من الحسين، فقد عاش الأب ــ علي ــ للحق وجرّد سيفه للذياد عنه منذ يوم بدر واستشهد الابن في سبيل الحرية يوم كربلاء ولا غرو فالأول ربيب محمد والثاني فلذة منه)

وقال الزعيم الهندي برستم داس تاندان: (منذ الطفولة كانت شهادة الحسين تبعث الحزن بأعماقي فأنا أدعو لتخليد هذه الواقعة فإن مثل هذا الفداء الذي قدمه الحسين يبعث بالرقي في روح البشرية فلا بد من أن تبقى خالدة ولا تنسى)

وقال جمال الدين الأفغاني: (إن الإسلام محمدي الوجود والحدوث، حسيني البقاء والاستمرار).

وقال المؤرخ الانكليزي جيمز كاركرن: (اشتهر رستم بالشجاعة في العالم ولكن إذا وجد من يذكر شجاعته لحد الآن فلا بد أنه لم يطلع على تاريخ الحسين وواقعة كربلاء حيث أثبت الحسين بأنه أشجع الناس قاطبة)

وقال طه حسين: (كان الحسين كأبيه صارماً في الحق لا يحب الهوادة ولا التسامح فيما لا ينبغي التسامح فيه)

وقال جبران خليل جبران: (لم أجد انساناً كالحسين سجّل مجد البشرية بدمائه)

وهكذا طفقت نبضات عشرات بل مئات من أعلام الفلاسفة والقادة والأدباء والمؤرخين والمفكرين وخفقت جوانحهم وهي تستلهم من هذه العظمة، فما أعظم الحسين ؟

لقد أدرك هؤلاء وغيرهم الكثير من العظماء الذين وقفوا على سرِّ عظمة الحسين وقالوا فيه، معنى هذه العظمة، ووعوا الأهداف الإنسانية السامية النبيلة التي سار عليها الحسين، وضحى من أجلها واستهان بحياته في سبيل تحقيقها، وهي أهداف تشترك في سبيل تحقيقها الإنسانية جمعاء, فالإنسانية ليست وقفاً على دين من الأديان، أو قومية من القوميات, وهذه الإنسانية حمل أهدافها الإمام الحسين يوم الطف.  

ويتجلّى الهدف السامي من ثورة الحسين واستشهاده في قوله: (أيها الناس: إن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرّموا حلاله).

فأيّ هدف أسمى وأرقى وأنقى وأعظم من هذا الهدف ؟ ولقد صرح الحسين برأيه هذا مراراً وتكراراً من أجل إيقاظ الأمة وتحريرها من العبودية فأرسل كلمته في عمق الأمة: (إنا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله).

لقد ارتقت هذه الثورة على مستوى الواقعية والرومانتيكية, كونها أحدثت تغييراً جذرياً في مسار الأمة, وأعادت إليها كرامتها المهدورة, وصحّحت المفاهيم العظيمة للإسلام بعد أن حرّفها الأمويون, وزيَّفوها في الأذهان, فكانت عظيمة في تضحيتها, وعظيمة في عطائها, عظيمة لأنها انتهت بأروع استشهاد في تاريخ البشرية، وأعظم تضحية مثلت ذروة العطاء البشري, فتغلغلت في الضمير الإنساني وأحيت الضمائر شبه الميتة التي خنقتها سياسة الجور الأموية. وعظيمة لأنها كانت التحدّي لأبشع وأقسى سياسة في تاريخ الإسلام, فالثورة في ذلك الوقت تعني الموت بلا شك, والحسين كان أكثر الناس وعياً بتلك المرحلة فقدّم نفسه فدية متوهّجة بالدم..   

المرفقات