حقوق ذوي الإحتياجات الخاصة في القرآن الكريم

عالجَ قوله تعالى (لَّيسَ عَلَى الأَعمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأَعرَجِ حَرَجٌ....)

 إشكاليّةً إجتماعيّةً ما زالَت تُعاني منها المجتمعاتُ البشريّةُ إلى اليوم، فالطبقيّة وضياعُ حقوقِ المكوّناتِ الضّعيفةِ مِن أعقدِ الإشكالاتِ التي تُهدّدُ بُنيةَ المُجتمعِ الإنسانيّ، فبرغمِ التّقدّمِ الذي تشهدُه البشريّةُ في مجالِ الحقوقِ والقوانينِ إلّا أنَّ المكوّناتِ الضّعيفةَ تُعاني من إمكانيّةِ دمجِها في المُجتمعِ، الأمرُ الذي إضطرَّ الأممَ المُتّحدةَ للتّدخّلِ لفرضِ مجموعةٍ منَ القوانينِ على البلدانِ حتّى تضمنَ الحقوقَ لذوي الإحتياجاتِ الخاصّةِ، مثلَ الأعمى والأعرجِ وكلِّ مَن أصابَه مرضٌ مزمنٌ سواءٌ كانَ جسديّاً أو نفسيّاً، ومعَ أنَّ هذهِ القوانينَ والأنظمةَ مفيدةٌ إلّا أنَّ الأجدى هوَ تغييرُ الوعي الثّقافيّ للمُجتمعاتِ، بحيثُ تستوعبُ وجودَهم بوصفِهم جزءاً أصيلاً في المجتمعِ، وهذا ما إهتمَّ به الدّينُ الإسلاميُّ حيثُ حرّضَ المُجتمعَ إلى ضرورةِ الإهتمامِ بالمكوّناتِ الضّعيفةِ حتّى لا تعيشَ على هامشِ المُجتمعِ، وقد يتصوّرُ البعضُ أنَّ إهتمامَ آياتِ القُرآنِ بشكلٍ لافتٍ بالأيتامِ والفقراءِ والمساكينِ بَل حتّى بالأعمى والأعرجِ والمريضِ هوَ فقَط بدافعِ الشّفقةِ والرّحمةِ، وإن كانَت الرّحمةُ قيمةً أساسيّةً في المُجتمعِ، إلّا أنَّ هذا الإهتمامَ يسعى في الحقيقةِ إلى بناءِ مُجتمعٍ قويٍّ ليسَ فيهِ ضُعفاء، وبالتّالي تقدّمُ الآياتُ وصفة إستراتيجيّة لتمتينِ بُنيةِ المجتمعِ.

وإذا رجعنا لسببِ نزولِ هذهِ الآياتِ أو وقفنا على الثّقافةِ السّائدةِ في تلكَ الفترةِ التّاريخيّةِ ولاحظنا الوضعَ المُجتمعيّ لذوي الحاجاتِ الخاصّةِ، لتعرّفنا على عُمقِ المُعالجاتِ المُبكّرةِ التي قدّمتها الآياتُ لإشكاليّةٍ إكتشفَتها الأممُ المُتّحدةُ في القرنِ العشرين، فعنِ الإمامِ الباقرِ (عليه السّلام) في تفسيرِ هذهِ الآيةِ قالَ: (ذلكَ أنّ أهلَ المدينةِ قبلَ أن يُسلِموا كانوا يعزلونَ الأعمى والأعرجَ والمريضَ، فكانوا لا يأكلونَ معهُم، وكانَت الأنصارُ فيهم تيهٌ وتكرّمٌ فقالوا: أنَّ الأعمى لا يبصرُ الطّعامَ والأعرجَ لا يستطيعُ الزّحامَ على الطّعامِ والمريضَ لا يأكلُ كما يأكُل الصّحيحُ فعزلوا لهُم طعامَهم على ناحية، وكانوا يرونَ عليهم في مؤاكلتِهم جُناحاً وكانَ الأعمى والمريضُ يقولونَ لعلّنا نؤذيهم إذا أكلنا معهُم فاعتزلوا مؤاكلتَهم، فلمّا قدمَ النّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) سألوه عَن ذلكَ فأنزلَ اللهُ "لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَأكُلُوا جَمِيعًا أَو أَشتَاتًا"). (تفسيرُ القُمّي، ج 2، ص 108).

وفي تفسيرِ إبن كثيرٍ عنِ الضّحّاكِ (كانوا قبلَ المبعثِ يتحرّجونَ منَ الأكلِ معَ هؤلاءِ تقذّراً وتقزّزاً، ولئلّا يتفضّلوا عليهم، فأنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ) وعليهِ فإنَّ الثّقافةَ المُجتمعيّةَ كانَت تنظرُ لذوي الإحتياجاتِ الخاصّةِ نظرةً دونيّةً، أي أنَّ هناكَ طبقةً مُستضعفةً ومهمّشةً تعيشُ على هامشِ الحياةِ، فأرادَت الآياتُ الإرتقاءَ بالثّقافةِ المُجتمعيّةِ إلى المُستوى الذي تصبحُ فيهِ الإنسانيّةُ هيَ المعيارَ الذي يقومُ عليهِ المُجتمعُ ولا شيءَ غير ذلكَ، وقد يستغربُ البعضُ أنَّ الآياتِ قدّمَت معالجةً لمشكلةِ الطّبقيّةِ مِن خلالِ موائدِ الطّعامِ، ولم تتحدّث عَن معاناةِ هذهِ الطّبقةِ في الشّؤونِ الحياتيّةِ الأخرى، إلّا أنَّ هذا الإستغرابَ ينطلقُ مِن وحي الثّقافةِ المُعاصرةِ التي تعقّدَت فيهِ الحياةُ وأصبحَ ذوو الإحتياجاتِ الخاصّةِ يعانونَ في التّمييزِ الوظيفيّ أو صعوبةِ دخولِ الأماكنِ العامّةِ أو عدمِ توفيرِ حمّاماتٍ خاصّةٍ أو وسائلِ نقلٍ تناسبُ إعاقاتهم أو غيرِ ذلكَ مِن مشاكلِ العصرِ، بينَما المُجتمعاتُ التي خاطبَتها تلكَ الآياتُ كانَت تعيشُ شظفاً منَ العيشِ وكانَ الطّعامُ هوَ المشكلةُ التي تؤرّقُ الجميعَ، وكانَ التّمايزُ بينَ طبقاتِ المُجتمعِ قائماً على مَن يمتلكُ طعامَه ومَن لا يمتلكُه، ومِن هُنا كانَت معالجةُ مشكلةِ الطّبقيّةِ مِن خلالِ مساواةِ ذوي الإحتياجاتِ الخاصّةِ وجعلِهم يتشاركونَ الطّعامَ معَ جميعِ أفرادِ المُجتمع، وعليهِ ذكرُ الطّعامِ والأكلِ لم يكُن إلّا على نحوِ المثالِ والمِصداقِ، والآيةُ تؤسّسُ لقيمةٍ مُجتمعيّةٍ تقومُ على مساواةِ جميعِ طبقاتِ المُجتمعِ ودمجِ ذوي الإحتياجاتِ الخاصّةِ في جميعِ الحقوقِ والواجبات.   

وبحسبِ التّدبّرِ في قولِه تعالى: (وَلا عَلَى أَنفُسِكُم أَن تَأكُلُوا مِن بُيُوتِكُم) ليسَ المقصودُ هوَ أن يأكلَ الإنسانُ في بيتِه الخاصِّ به، وإنّما الخطابُ موجّهٌ لجميعِ أفرادِ المُجتمعِ، وعبّرَ عنِ الجميعِ (بأنفسِكم) بقصدِ الإرتقاءِ بالمُجتمعِ إلى مستوى يكونُ أفرادُه كالنّفسِ الواحدةِ، أي لا حرجَ أن تأكلوا في بيوتِ بعضِكم البعض، ويشاركُكم في ذلكَ الأعمى والأعرجُ والمريضُ، وبالتّالي تكونُ الآيةُ قَد رفعَت بعضَ القيودِ التي تُشكّلُ حواجز بينَ أفرادِ المُجتمعِ، سواءٌ كانَت قيوداً عرقيّةً أو قبليّةً أو طبقيّةً أو غير ذلكَ، قالَ تعالى: (وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلَالَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم)، والذي يؤكّدُ أنَّ كلمةَ (أنفسِكم) المقصودُ بها إنزالُ الجميعِ منزلةَ النّفسِ الواحدةِ، هيَ قوله في نفسِ الآيةِ (فسلّموا على أنفسِكم) إذ ليسَ المقصودُ أن يُسلّمَ الإنسانُ على ذاتِه وإنّما المقصودُ أن يُسلّمَ على مَن في البيتِ، فعنِ الإمامِ الباقرِ (عليهِ السّلام) في تفسيرِ هذهِ الآيةِ يقولُ: (هوَ تسليمُ الرّجلِ على أهلِ البيتِ حينَ يدخلُ ثمَّ يردّونَ عليهِ فهوَ سلامُكم على أنفسِكم) (نورُ الثّقلين، ج3 ص 627) فعندَما يُسلّمُ إنسانٌ على إنسانٍ آخر إنّما يُسلّمُ على نفسِه؛ وذلكَ لكونِ الطبيعةِ الإنسانيّةِ هيَ طبيعةٌ واحدةٌ عندَ الجميعِ، ومعَ أنَّ هذا المعنى قَد ينسجمُ معَ المبادئِ العامّةِ التي أسّسها القرآنُ الكريمُ إلّا أنّهُ قد يُشكلُ عليهِ بالقولِ: لماذا الآيةُ ذكرَت بيوتَ الأقاربِ بشكلٍ مُفصّلٍ طالما الجميعُ في مقامِ النّفسِ الواحدة؟

وللتّعليقِ على هذا الإشكالِ يمكنُنا القولُ أنَّ الآيةَ معَ أنّها تُؤسّسُ للإطارِ الكلّيّ الذي يشتركُ فيهِ جميعُ أفرادِ المُجتمعِ إلّا أنّها لا تهملُ بعضَ الرّوابطِ الخاصّةِ بينَ بعضِ طبقاتِ المُجتمعِ، ويُصطلحُ على هذهِ الرّوابطِ (بالأرحام)، والتّأكيدُ على ضرورةِ الحفاظِ على صلةِ الرّحمِ لا يعني تأسيسَ طبقيّةٍ مِن نوعٍ آخر في المُجتمعِ وإنّما مِن أجلِ إلفاتِ المُجتمعِ إلى الأصولِ الأوليّةِ التي قامَ عليها المُجتمعُ، ومِن هُنا كانَ إهتمامُ الإسلامِ بالأسرةِ بوصفِها اللّبنة الأولى للمُجتمعِ، وبما أنَّ الآيةَ تتحدّثُ عنِ الوحدةِ العضويّةِ للمُجتمعِ فكانَ منَ الضّروريّ أن تشيرَ لهذهِ النّماذجِ منَ الأقاربِ للتّأكيدِ على الرّوابطِ القائمةِ على المحبّةِ والرّحمةِ وصلةِ الرّحمِ، وأنَّ المُجتمعَ مهما إتّسعَ فإنّه يعودُ في أصولِه لروابطِ الأبوّةِ والأمومةِ والأخوّةِ وهكذا بقيّةُ الأرحامِ والأقارب.

 ويبدو أنَّ السّائلَ عندَما ظنَّ أنَّ هذهِ القضايا منَ الأمور البديهيّةِ أنّهُ توقّفَ عندَ الأمثلةِ التي قد لا تُشكّلُ في عصرِنا الحاضرِ أزمةً حقيقيّةً، فللهِ الحمدُ يتوفّرُ في عصرِنا الطّعامُ حتّى أصبَحنا نتفنّنُ في أنواعِه وأشكالِه، فالثّلاجاتُ في البيوتِ مليئةٌ بأنواعِ الطّعامِ والمطاعمِ على رأسِ كلِّ شارعٍ، وبإمكانِ الإنسانِ أن يتخيّرَ الطّعامَ بحسبِ مُقدّراتِه الماليّةِ، فمَن يعيشُ في مثلِ هذهِ الأجواءِ ثمَّ يسمعُ أنّهُ لا حرجَ أن يأكلَ الأعمى والأعرجُ والمريضُ أو أنفسُكم مِن بيوتِكم أو بيوتِ آبائِكم إلى آخرِ الآية، قد لا يُفهمُ مغزاها لأنّهُ توقّفَ عندَ المثالِ وتركَ القيمةَ التي تؤسّسُ لها الآيةُ، فلو قُلنا لهُ أنَّ الأممَ المُتّحدةَ قالَت ليسَ على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرجِ حرجٌ ولا على جميعِ ذوي الإحتياجاتِ الخاصّةِ حرجٌ في أن يكونَ لهُم وظائفُ في الدّولةِ أو يكونَ لهم وسائلُ نقلٍ تناسبُهم أو غير ذلكَ منَ الأمثلةِ التي تُشكّلُ حاجاتٍ لهذهِ الطّبقةِ، فسوفَ نجدُه يُصفّقُ لهذا النّصِّ لكونِه يُمثّلُ نصّاً أخلاقيّاً وقيميّاً ينصفُ الطّبقةَ الضّعيفةَ منَ المُجتمعِ، وما وقعَ فيهِ السّائلُ هو محاكمةُ عصرِ نزولِ الآيةِ بالعصرِ الذي يعيشُ فيه، معَ أنَّ الواجبَ هوَ إكتشافُ القيمةِ التي تؤسّسُ لها الآياتُ ومِن ثمَّ تطبيقُ هذهِ القيمةِ على مُفرداتِ العصرِ الذي يعيشُ فيه، فالآياتُ القرآنيّةُ لها خاصّيّةُ الجري والإنطباقِ لِما فيها مِن قيمٍ كلّيّةٍ صالحةٍ لكلِّ زمانٍ ومكان، وعليهِ يجبُ على المُتدبّر في القرآنِ الكريمِ أن يتصيّدَ البصائرَ والهُدى في الآياتِ، فجميعُ آياتِ القرآنِ تؤسّسُ لقيمٍ كُبرى لو إتّبعتها البشريّةُ لتغيّرَ حالَها إلى الأفضل.

 

المرفقات