النزول الدفعي والتدريجي للقرآن الكريم

يُستفادُ مِن بعضِ الآياتِ والرّواياتِ أنّ للقُرآنِ الكريمِ نزولاً دفعيّاً جُمَليّاً ، حيثُ نزلَ في شهرِ رمضان { شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآَنُ } [البقرة 185] وفي ليلةٍ مُباركةٍ منه { حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [الدّخان 1 - 3] وبالتحديدِ في ليلةِ القدرِ { إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ} حيثُ نزلَ القُرآنُ دفعةً واحدةً، وهذا ما يُفسّر لنا قولَه تعالى : { وَلَا تَعجَل بِالقُرآَنِ مِن قَبلِ أَن يُقضَى إِلَيكَ وَحيُهُ وَقُل رَبِّ زِدنِي عِلمًا } [طه 114] وقولَه : { لَا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ } .   وبعضُ الرّواياتِ تنصُّ على تحقّقِ النّزولِ الدّفعي .   ولكِن لم يُؤمَر النّبيّ (ص) بتبليغِه إلى النّاسِ دفعةً واحدةً ، ولعلَّ الهدفَ منَ النّزولِ الدّفعيّ ، أن يكونَ النّبيّ (ص) مُطّلعاً على مضمونِ الدّعوةِ بشكلٍ كاملٍ ، لأنّه المُبلّغُ عنِ اللهِ تعالى ، ولا نعلمُ بالتّحديدِ هَل كانَ نزولاً بألفاظِه أم بحقائقِه ومعانيه ، وهَل هوَ نزولٌ تفصيليٌّ أم نزولٌ إجمالي .  كما أن للقرآنِ الكريمِ نزوٌل نجوميٌّ تدريجيّ ، حيثُ نزلَ بشكلٍ مُقطّعٍ على مدى سنواتِ رسالةِ النّبيّ (ص) في مكّةَ والمدينة .  والحكمةُ مِن نزولِه التّدريجيّ ربّما يتلخّصُ فيما يلي :   السّببُ الأوّلُ : تثبيتُ قلبِ النبيّ (ص) : قالَ اللهُ تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولَا نُزِّلَ عَلَيهِ القُرآَنُ جُملَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلنَاهُ تَرتِيلًا } [الفرقان 32] فإنّ المُشركينَ والمُنافقينَ كانوا يؤذونَ رسولَ اللهِ (ص) ، وتتواترُ الضّغوطاتُ عليه مِن كُلِّ جانبٍ ، فإتّصالُه بعالمِ الغيبِ بشكلٍ دائمٍ يوجبُ النّشاطَ الرّوحيّ ، ويزيحُ عنها غبارَ التّعبِ والهمومِ ، وبذلكَ يثبتُ قلبُ النّبي (ص) .   السّببُ الثاني : إنّ بعضَ الآياتِ القُرآنيّةِ مُرتبطةٌ بحوادثَ زمانيّةٍ ، كقولِه تعالى : { قَد سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوجِهَا وَتَشتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلةُ 1] وقولِه : { وَيَسأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلمِ إِلَّا قَلِيلًا } [الإسراءُ 85] و { يَسأَلُونَكَ عَنِ الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَفعِهِمَا وَيَسأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرُونَ ، فِي الدُّنيَا وَالآَخِرَةِ وَيَسأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى } [البقرةُ 219 - 220] حيثُ نزلَت الكثيرُ منَ الآياتِ تعليقاً على حوادثَ حصلَت في مكّةَ أو المدينةِ ، والنّزولُ التّدريجيُّ أنسبُ بهذهِ الحوادثِ منَ النّزولِ الدّفعي .  السّببُ الثّالث : إنّ القرآنَ كتابُ هدايةٍ وتعليمٍ وتربيةٍ ، والنّزولُ التّدريجيّ يُحقّقُ الغرضَ بشكلٍ أكبرَ منَ النّزولِ الدّفعي ، فلو نزلَ القرآنُ دفعةً وإطّلعَ المشركونَ والكُفّارُ على ما فيهِ مِن مُحرّماتٍ لما آمنَ الكثيرونَ منهم ، فإنّهُ معَ النّزولِ التدريجيّ يتحقّقُ البيانُ التّدريجيُّ للأحكامِ الإلهيّةِ ، ويمكنُ للذينَ أسلموا أن يُقلعوا عَن عاداتِهم السّيّئةِ بشكلٍ تدريجيٍّ وسلسٍ ، ويمكنُ مِن خلالِ النّزولِ التدريجيّ للمعارفِ الإلهيّةِ العُليا ، إقناعُ الكُفّارِ والمُسلمينَ بها بشكلٍ تدريجيٍّ ، وهو أكثرُ تأثيراً في رسوخِها في النّفسِ وعقدِ القلبِ عليها ، وقناعةِ العقلِ بها .  وأيضاً يُسهّلُ على المُسلمينَ حفظَ القرآنِ وفهمَه .  قالَ تعالى : { وَقُرآناً فَرَقنَاهُ لِتَقرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكثٍ وَنَزَّلنَاهُ تَنزِيلاً } [ الإسراء 106]  السّببُ الرّابع : تثبيتُ قلوبِ المُؤمنينَ : إنّ مواكبةَ القرآنِ الكريمِ لحياةِ النّاس ، ونزولِ الكثيرِ منَ الآياتِ تعليقاً على ما يحصلُ في حياتِهم ، وتفاعلِ القرآنِ معَ تلكَ الحوادثِ والوقائعِ ، يوجبُ تثبيتَ قلوبِ المُسلمينَ حديثي العهدِ بالإسلامِ ، إذ نزولُ الوحي لمُدّةِ 23 سنةٍ بشكلٍ دائمٍ ومتواصلٍ ، وتأريخُ القرآنِ لكثيرٍ مِن تلكَ الوقائعِ ، يوجبُ تثبيتَ قلوبِهم ، بخلافِ ما إذا نزلَ دفعةً واحدةً وإنقطعَ الوحيُ، فإنّهُ سيقلُّ تفاعلُهم معَ النّبوّةِ ، لأنّهم حديثو عهدٍ بالإسلام .

 

المرفقات