لماذا يعترف الأئمة بالذنوب وهم معصومون ؟

إنَّ التّوبةَ والإعترافَ بالتّقصيرِ وطلبَ العفوِ قد يكونُ مِن ذنبٍ، وقد يكونُ مِن دونِ ذنبٍ، فالأنبياءُ والأئمّةُ عليهم السّلام يتوبونَ ويستغفرونَ اللهَ مِن غيرِ ذنبٍ ومعصيةٍ صدرَت منهُم تجاهَ ربِّهم.

روى الكُلينيّ والصّدوقُ بسندٍ صحيحٍ عَن عليٍّ بنِ رئاب قالَ : سألتُ أبا عبدِ اللهِ (عليهِ السّلام) عَن قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: { وما أصابَكم مِن مُصيبةٍ فبِما كسبَت أيديكُم } أرأيتَ ما أصابَ عليّاً وأهلَ بيتِه (عليهم السّلام) مِن بعدِه هوَ بما كسبَت أيديهم وهُم أهلُ بيتِ طهارةٍ معصومون؟

فقالَ (ع): إنَّ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) كانَ يتوبُ إلى اللهِ ويستغفرُه في كلِّ يومٍ وليلةٍ مائةَ مرّةٍ مِن غيرِ ذنبٍ، إنَّ اللهَ يخصُّ أولياءَه بالمصائبِ ليأجرَهم عليها مِن غيرِ ذنب. 

ومثلهُ في مُعتبرةِ إبنِ بكيرٍ عنِ الصّادقِ (ع) (الكافي للكُلينيّ: 2 / 450، معاني الأخبارِ للصّدوق ص383).

وهناكَ أقوالٌ ووجوهٌ في هذهِ المسألة: 

الوجهُ الأوّلُ: أنّهُ مِن بابِ تعليمِ الأمّةِ كيفَ يستغفرونَ ربَّهم ويتوبونَ إليه. 

الوجهُ الثّاني: أنّهُ مِن بابِ التّواضعِ.

الوجهُ الثّالثُ: مِن بابِ الإنشغالِ بالمُباحاتِ والضّروراتِ الدّنيويّةِ، فهوَ إستغفارٌ حقيقيٌّ وليسَ تعليميّاً فحسب، ولا مِن بابِ مُجرّدِ التّواضعِ.

قالَ الإربلي: إنَّ الأنبياءَ والأئمّةَ عليهم السّلام تكونُ أوقاتُهم مشغولةً باللهِ تعالى وقلوبُهم مملوءةً بهِ وخواطرُهم متعلّقةً بالملأ الأعلى وهُم أبداً في المُراقبةِ كما قالَ عليه السّلام: أعبدِ اللهَ كأنّكَ تراهُ فإن لم ترَه فإنّهُ يراكَ، فهُم أبداً مُتوجّهونَ إليهِ ومُقبلونَ بكلِّهم عليهِ فمتى إنحطّوا عن تلكَ الرّتبةِ العاليةِ والمنزلةِ الرّفيعةِ إلى الإشتغالِ بالمأكلِ والمشربِ والتّفرّغِ إلى النّكاحِ وغيرِه منَ المُباحاتِ عدّوهُ ذنباً واعتقدوهُ خطيئةً وإستغفروا0 منهُ ألا ترى أنَّ بعضَ عبيدِ أبناءِ الدّنيا لو قعدَ وأكلَ وشربَ ونكحَ وهوَ يعلمُ أنّهُ بمرأىً مِن سيّدِه ومسمعٍ لكانَ ملوماً عندَ النّاسِ ومُقصّراً فيما يجبُ عليه مِن خدمةِ سيّدِه ومالكِه فما ظنُّكَ بسيّدِ السّاداتِ وملكِ الأملاك .

وإلى هذا أشارَ عليهِ السّلام أنّهُ: ليرانُ على قلبي وإنّي لأستغفرُ بالنّهارِ سبعينَ مرّةً، ولفظةُ السّبعين إنّما هيَ لعدِّ الإستغفارِ لا إلى الرّينِ وقوله: حسناتُ الأبرارِ سيّئاتُ المُقرّبينَ، ونظيرُه إيضاحاً مِن لفظِه ليكونَ أبلغَ منَ التّأويلِ ... فقد بانَ بهذا أنّهُ كانَ يُعدُّ إشتغالَه في وقتٍ ما بما هوَ ضرورةٌ للأبدانِ معصيةً يستغفرُ اللهَ منها. (كشفُ الغُمّةِ في معرفةِ الأئمّةِ، للإربلي: ٣ / 47 – ٤٨). 

وقالَ المازندرانيُّ: فالكونُ في الدّرجةِ التّحتانيّةِ نقصٌ بالنّسبةِ إلى الكونِ في الدّرجةِ الفوقانيّةِ، ولا ريبَ في أنَّ التّوبةَ منهُ أيضاً مطلوبةٌ ولعلَّ توبتَه (صلّى اللهُ عليهِ وآله) كانَت مِن هذا القبيل. (شرحُ الكافي:10 / 197).

الوجهُ الرّابعُ: أنّ قلبَ المعصومِ (ع) دائمُ الإنشغالِ معَ اللهِ تعالى بالذّكرِ، والذّكرُ لهُ مراتبُ عديدةٌ، مثلاً مرتبةُ الذّكرِ في السّجودِ أعلى مِن مرتبةِ الذّكرِ في غيرِها، ومرتبةُ الذّكرِ معَ فراغِ البالِ أعلى مِن مرتبةِ الذّكرِ معَ إنشغالِ البالِ، ومرتبةُ الذّكرِ في الخلوةِ أعلى مِن مرتبةِ الذّكرِ في غيرِ الخلوة.

وعبادةُ اللهِ معَ المعرفةِ خيرٌ مِن عبادتِه بلا معرفةٍ، وعبادةُ اللهِ معَ المعرفةِ الكثيرةِ خيرٌ مِن عبادتِه معَ المعرفةِ القليلةِ، فمَن يعبدُ الله على حرفينِ خيرٌ ممَّن يعبدُه على حرفٍ واحدٍ، ومَن يعبدُه على ثلاثةِ أحرفٍ خيرٌ ممَّن يعبدُه على حرفينِ، وهكذا ... وكلّما إزدادَ الإنسانُ معرفةً باللهِ إزدادَت قيمةُ عبادتِه.

وعباداتُ الإنسانِ تختلفُ قيمتُها معَ درجاتِ الإخلاصِ، فمَن يعبدُ اللهَ لأنّهُ يجدُه أهلاً للعبادةِ أو حبّاً له، فعبادته خيرٌ وأعلى مرتبةً مِن عبادةِ مَن يعبدُ اللهَ طمعاً في جنّتِه أو خوفاً مِن ناره.

ومَن يعبدُ اللهَ وهوَ يملكُ 20% إخلاص، فعبادتُه أفضلُ ممَّن يملكُ 10% ، ومَن يعبدُه وهوَ يملكُ 50% إخلاص خيرٌ ممَّن يعبدُه وهوَ يملكُ 45% منَ الإخلاصِ، وهكذا ... 

فذِكرُ اللهِ ومعرفتُه وعبادتُه والإخلاصُ لهُ على مراتبَ ودرجاتٍ متفاوتةٍ ومختلفةٍ.

والدّرجاتُ الدّانيةُ منَ العبادةِ، درجتُها أقلُّ مِن جودةِ عبادةِ الدّرجاتِ العاليةِ، ودرجةُ الإلتفاتِ أقلُّ مِن غيرِها، ونحنُ البشرُ العاديّونَ لا نصل إلى أدنى درجاتِ عباداتِهم.

معَ أنّهم مُشتغلونَ بالعبادةِ على كلِّ حالٍ، ولكِن يستغفرونَ منَ الجودةِ الأقلِّ.

ومِن هُنا قالوا: حسناتُ الأبرارِ سيّئاتُ المُقرّبين.

فإنّ الأبرارَ الذينَ تكونُ جودةُ أعمالِهم وعباداتِهم – مثلاً – 50 درجةً، تُعدُّ حسناتٍ برأيهم، ولكنَّ المُقرّبينَ الذينَ تخطّوا تلكَ المراحلَ منَ العبادةِ ووصلوا إلى درجةِ 60 أو 70 أو 80 أو 90 درجةٍ – مثلاً – فعبادةُ الـ 50 درجةً تعدُّ سيّئةً في نظرهم.

فلو نزلَت جودةُ عبادةِ المُقرّبِ – بسببِ إنشغالِه بأمورِ الدّنيا الضّروريّةِ – مِن 90 درجةٍ إلى 80 درجةٍ، فإنّهُ تراجعٌ وتنازلٌ وهبوطُ مستوىً، ولذا يتضرّعُ إلى اللهِ تعالى بالإستغفارِ والتّوبةِ مِن هبوطِ المستوى، معَ أنّهُ لم يُمارِس ذنباً، وإنّما فعلَ طاعةً للهِ، ولكِن نزول جودةِ العملِ يُعدّها فينظرِه ذنباً، ولِذا قد يعاقبُه اللهُ تعالى بسببِ هبوطِ المُستوى في بعضِ الأحيانِ، حبّاً له وتأديباً كي لا يعود.

مثالٌ مِن حياتنا الإعتياديّة: لو عندَنا طالبٌ مُجدٌّ ومثابرٌ في دروسِه، ومتفوّقٌ على طلّابِ صفِّه، ودرجاتُه فوقَ الـ 90% دائماً، فلو هبطَ مستواهُ قليلاً إلى 80% مثلاً، فإنّه سيعدُّ نفسَه مُذنِباً ومقصّراً، ويكونُ ذلكَ سبباً لأن يُكثّفَ جهودَه أكثر ليرجعَ إلى مستواهُ السّابق، بل أعلى { وقُل ربِّ زِدني عِلماً }.

والأستاذُ النّصوحُ المُشفقُ والمُحبُّ سيعاقبُ هذا التّلميذَ، إذا رأى مصلحةً في ذلكَ، لا أقلَّ يؤنّبُه، وإلّا لو لم يُعدَّ الطّالبُ نفسَه مُذنِباً ومُقصِّراً ولم يطوِّر نفسَه، وتركَهُ الأستاذُ على حالِه، ولم يؤنّبهُ ويوبّخهُ ويُشدِّد عليه، فإنّهُ بمرورِ الأيّامِ ستصبحُ درجاتُه 50%، أو الرّسوبَ مثلاً، فإعترافُه بالتّقصيرِ والذّنبِ والتّحرّكُ للتّغييرِ، وتشديدُ الأستاذِ عليه، هيَ التي تحافظُ على مستواهُ، ويكونُ سبباً لتطوّرِه.

وهذا الذي رأيناهُ في المدارسِ أنّ بعضَ الأساتذةِ كانوا يعاقبونَ الطلّابَ المُتفوّقينَ بسببِ هبوطِ مستواهم، ويؤنّبونَهم ويوبّخونَهم أمامَ الطلّابِ، ويطالبونَ أولياءَ أمورِهم، وكيفَ كاَن هؤلاءِ الطلّابُ يبكونَ ويعتذرونَ ويعدونَ الأساتذةَ بعدمِ التّكرار.

ولو فرضنا طالباً متوسط المُستوى درجاتُه بحدودِ الـ 60% أو 70%، فلو إرتفعَ مستواهُ إلى 80%، فأستاذُه سيقومُ بتشجيعِه حتّى لا يرجعَإلى الـ 60 و 70 .

السّؤالُ هُنا: كِلا الطالبين أخذا 80%، فالثّاني تعدُّ هذهِ الدّرجةُ بالنّسبةِ لهُ تطوّراً وتحسّناً في المُستوى، والأوّلُ يعدّهُ هبوطاً وتدنّياً يتنزّهُ عنهُفي المرّاتِ القادمة.

وهذا معنىً مِن معاني: حسناتُ الأبرارِ سيّئاتُ المُقرّبينَ.

حسناتُ الأبرارِ ( 80 درجةً بالنّسبةِ لذلكَ الطالبِ المُتوسّطِ ) سيّئاتُ المُقرّبينَ ( 80 درجةً بالنّسبةِ لذلكَ الطالبِ المُتفوّق ). 

وهذا المعنى أيضاً ينطبقُ على حالةِ التوقّفِ والرّكودِ العلميّ، وغيرُ منحصرٍ بحالةِ التّراجعِ.

لو كانَ أحدُ الطلّابِ كلَّ يومٍ في حالةِ تطوّرٍ علميٍّ، فلو غابَ يوماً ولم يُراجِع دروسَه، فقد توقّفَ مستواهُ العلميّ ولم يتطوّر، فقد خسرَ تلكَ الدّروسَ التي فاتَتهُ، وضاعَ مِن عمرِه يومٌ علمي.

(وهذا الوجهُ نستبعدُ إنطباقَه على النّبيّ وأهلِ بيتِه)

الوجهُ الخامسُ: إنّهُ مِن بابِ تركِ المُستحبِّ: لو أنّ شخصاً إعتادَ على أداءِ صلاةِ اللّيلِ وشعرَ بلذّتِها وعرفَ أهمّيّتَها، وفي ليلةٍ منَ اللّيالي لم يُوفَّق لها لمرضٍ مثلاً أو لأمرٍ آخر، فإنّهُ سيرى نفسه مذنباً ومقصِّراً على تركِه صلاةَ اللّيلِ، معَ أنّهُ قد يكونُ خارجاً عَن إختيارِه.

مثالٌ آخر: لو كانَ شخصٌ معتاداً على أداءِ النّوافلِ، ولكنّهُ في يومٍ بسببِ أمرٍ ضروريٍّ فاتَته نافلةُ الظهرِ مثلاً، فإنّهُ سيرى نفسَه مُقصّراً ومُذنِباً، ويستغفرُ اللهَ منها.

قالَ الحسينُ بنُ سعيدٍ الأهوازي (مِن أصحابِ الإمامِ الرّضا والجوادِ والهادي): لا خلافَ بينَ عُلمائنا في أنّهم عليهم السّلام معصومونَ مِن كلِّ قبيحٍ مُطلقاً وأنّهم عليهم السّلام يسمّونَ تركَ المندوبِ ذنباً وسيّئةً بالنّسبةِ إلى كمالِهم عليهم السّلام. (كتابُ الزّهدِ ص73). 

الوجهُ السّادسُ: أنّهم يعدّونَ أنفسَهم مُقصّرينَ في مقابلِ ما أنعمَ اللهُ عليهم مِن كمالاتٍ ومقاماتٍ، فلأنَّ اللهَ إصطفاهم وكرّمَهم وجعلَهم قدوةَ الخلقِ طُرّاً، يقولُ اللهُ تعالى لنبيّه: { وكانَ فضلُ اللهِ عليكَ عظيماً }.

فإنّ اللهَ لم يتفضَّل على أحدٍ مِن خلقِه كما تفضّلَ على نبيّهِ الخاتمِ وأهلِ بيتِه الأطهارِ، ومِن ثمّ الأنبياءِ، ولذا لا يستطيعونَ أداءَ حقِّ تلكَ النّعمِ الجسيمةِ، فينظرونَ إلى أنفسِهم نظرَ التّقصيرِ والمقتِ، ولا طريقَ لهم سوى الإعترافِ بالعجزِ عَن أداءِ حقِّ تلكَ النّعمِ، والتّوبةِ والإستغفارِ مِن هذا التّقصيرِ في مُقابلِ ما تفضّلَ اللهُ عليهم. وأنّ عباداتهم ليسَت في مقامِ أداءِ حقِّ تلكَ النّعمِ الكبيرةِ، فهُم مِن جهةٍ ينظرونَ إلى نعمِ اللهِ عليهم، ومِن جهةٍ أخرى ينظرونَ إلى عباداتِهم، فيقارنونَ بينَها، فيرونَ أن لا تناسبَ بينَ ما أنعمَ اللهُ عليهم، وبينَ ما تفضّلَ اللهُ عليهم، ولذا يستغفرونَ اللهَ مِن عباداتِهم وأعمالهم.

ونظرةُ الإنسانِ إلى نفسِه بالتّقصيرِ تكونُ سبباً لتطوّرِه ورفعةِ درجاتِه ورِضا ربِّه عليه.

ونظيرُ هذا ما لو تفضّلَ أستاذٌ على تلميذٍ وأوصلَه بتربيتِه وتعليمِه إلى أعلى المراتبِ التي لا يصلُ إليها عادةً الأفرادُ العاديّونَ، فإنّ هذا التّلميذَ سيظلُّ مديناً لأستاذِه طوالَ عُمرِه، فإنّهُ مهما أحسنَ إلى أستاذِه وأبنائه وجميعِ مَن يرتبطُ بأستاذِه، فإنّهُ سيرى نفسَه مُقصِّراً تجاهَ أستاذِه، ويستغفرُ اللهَ مِن تقصيرِه، وينظرُ إلى نفسِه بأنّهُ مهما قامَ مِن عملٍ فإنّهُ لن يؤدّي حقّ ساعةٍ مِن جلوسِ أستاذِه معَه لتعليمِه وتربيتِه.

الوجه السّابعُ: قالَ العلّامةُ المجلسي: يلوحُ مِن فحاوي الأخبارِ الكثيرةِ أنّهم عليهم السّلام في جميعِ النّشآتِ أي قبلَ حلولِ أرواحِهم المُطهّرةِ في الأجسادِ المُقدّسةِ ، وبعدَ حلولِها فيها ، وبعدَ مُفارقتِها الأبدانَ وعروجِها إلى عالمِ القدسِ ، لهُم ترقيّاتٌ في المعارفِ الربّانيّةِ ودرجاتِ الكمالِ، ولا يزالونَ سائرينَ على معارجِ القربِ والوصالِ ، وغائصينَ في بحارِ أنوارِ معرفةِ ذي الجلالِ ، إذ لا غايةَ لمدارجِ عرفانِه وحبِّه وقربِه تعالى ،وبينَ درجةِ الرّبوبيّةِ ودرجاتِ العبوديّةِ منازلُ لا تُحصى .

فإذا عرفتَ ذلكَ فإنّهم إذا تعلّموا في بدوِّ إمامتِهم منَ الإمامِ السّابقِ قدراً منَ العلومِ والمعارفِ ، فلا محالةَ هُم لا يقفونَ في تلكَ المرتبةِ ويحصلُ لهُم بسببِ مزيدِ القربِ والطاعاتِ زوائدُ العلومِ والحكمِ والترقياتِ ، وكيفَ لا يحصلُ لهم مع حصولِه لسائرِ الخلقِ معَ نقصِ قابليّاتِهم وإستعداداتِهم ، فهُم عليهم السّلام بذلكَ أولى وأحرى ، فيمكنُ أن يكونَ هذا هوَ المرادُ بما يحصلُ آناً فآناً وساعةً فساعة في الليلِ والنّهار .

ولعلَّ هذا أحدُ وجوهِ إستغفارِهم وتوبتِهم في كلِّ يومٍ سبعينَ مرّةً وأكثرَ مِن غيرِ ذنبٍ ، إذ كلّما عرجوا درجةً مِن تلكَ الدّرجاتِ العاليةِ يرونَ الدّرجةَ السّابقةَ وما وقعَ فيها منَ الطّاعاتِ والقرباتِ ناقصةً عَن تلكَ الدّرجةِ فيستغفرونَ منها ويتوبونَ إلى اللهِ تعالى ويتضرّعونَ إليه سبحانَه في الوصولِ إلى ما هوَ أعلى منها ، ومنَ المرتبةِ التي هُم فيها . (مرآةُ العقولِ: 3 / 19، بحارُ الأنوارِ: 26 / 21).

وشبيهُ ذلكَ: لو أنّ إنساناً عبدَ اللهَ لفترةٍ منَ الزّمنِ خوفاً مِن نارِه، أو طمعاً في جنّتِه، فهذهِ العبادةُ جيّدةٌ ومطلوبةٌ، ولكنّها ليسَت كلَّ الطموحِ، ولكنّهُ بعدَ فترةٍ تطوّرَ ووصلَ إلى مقامِ العبادةِ حبّاً للهِ تعالى، فإنّهُ لمّا ينظرُ إلى عباداتِه السّابقةِ قبلَ أن يصلَ إلى مقامِ الحبِّ، فإنّهُ سيراها ناقصةً ويتوبُ إلى اللهِ مِنها، ويرى نفسَه مُقصِّراً لماذا لم يكثّف جهودَه أكثرَ ليصلَ إلى مقامِ عبادةِ الحبِّ أسرعَ ممّا وصلَ إليه.

الوجهُ الثّامنُ: أنّهُ إستغفارٌ لأمّتِهم وشيعتِهم، فإنّ الأنبياءَ والأئمّةَ بما أنّهُم حججُ اللهِ، وشيعتُهم وأتباعُهم لمّا يذنبونَ ويسيؤونَ إلى اللهِ تعالى، يقومُ الأنبياءُ والأئمّةُ بتقديمِ الإعتذارِ إلى اللهِ مِن أفعالِ أتباعِهم، لأنّهم المسؤولونَ عنهُم.

وهذا نظيرُ ما لو قامَ شخصٌ بالإساءةِ إلى شخصيّةٍ كبيرةٍ، فيقومُ أبوهُ أو شيخُ عشيرتِه بتقديمِ الإعتذارِ ويتعهّدُ بعدمِ تكرارِ الإساءةِ، وإن كانَت الإساءةُ إلى دولةٍ أو رئيسِ دولةٍ، تقومُ أعلى سلطةٍ في الدّولةِ بتقديمِ الإعتذارِ إلى تلكَ الدّولةِ التي أساءَ لها بعضُ مواطنيه.

الخُلاصةُ: 

وجهُ إستغفارِ المعصومينَ وتوبتِهم:

قيلَ: هوَ مِن بابِ تعليمِ النّاسِ كيفيّةَ الإستغفارِ والتّوبة. 

وقيلَ: مِن بابِ التّواضعِ. 

وقيلَ: مِن بابِ: حسناتُ الأبرارِ سيّئاتُ المقرّبين.

بيانُ ذلكَ: إنَّ الأنبياءَ والأئمّةَ عليهم السّلام تكونُ أوقاتُهم مشغولةً باللهِ تعالى وقلوبُهم مملوءةً بهِ وخواطرُهم متعلّقةً بالملأِ الأعلى وهُم أبداً في المراقبةِ، فمتى إنحطّوا عَن تلكَ الرّتبةِ العاليةِ والمنزلةِ الرّفيعةِ إلى الإشتغالِ بالمأكلِ والمشربِ والتّفرّغِ إلى النّكاحِ وغيرِه منَ المُباحاتِ التي هيَ ضرورةٌ للأبدانِ، عدّوهُ ذنباً وإعتقدوهُ خطيئةً، يستغفرونَ اللهَ منه، فهوَ مِن بابِ حسناتِ الأبرارِ سيّئاتُ المُقرّبين. 

وقيلَ: إنّ المعصومينَ يرونَ أنفسَهم مُقصّرينَ في مقابلِ النّعمِ التي أنعمَ اللهُ عليهم، فلذا يستغفرونَ اللهَ مِن ذلكَ التّقصير.

المرفقات