(وكفلها زكريا). من الذي تكفل مريم؟ زكريا أم يوسف النجار؟

لم يرد ذكر يوسف النجار في القرآن بل ورد أن زكريا (عليه السلام) زوج  اليصابات خالة السيدة  مريم (عليها السلام) هو الذي كفلها، وهو الذي افرد لها مكاناً في المعبد تتعبد فيه، ولكن الإنجيل يحكي قصة أخرى يقول فيها بأن يوسف النجار هو الذي كفل السيدة العذراء عن طريق الزعم أنها خطيبته.

لم يُعالج الإنجيل لنا بموضوعية وإنصاف قصة السيدة( عليها السلام) فلم يذكر لنا خلفياتها وتربيتها فقد بدأ مباشرة بقوله :"كانت مريم مخطوبة" وكأنها خرجت لنا من العدم، فلا تاريخ ولا سيرة الها، بل أن سيرتها الشخصية في الإنجيل كانت مجهولة ، وحتى النصوص التي تُذكر فهي نصوص مضطربة جدا تكاد لا تعرف ماذا تريد أن تخبرنا.

 فعلى سبيل المثال نقرأ : "لما كانت مريم أمهُ مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمعا ، وجدت حبلى من الروح القدس، فيوسف رجلها إذ كان بارا، ولم يشا أن يشهرها، أراد تخليتها سرا"، النص مضطرب جدا حول بداية السيدة مريم العذراء، حيث يقول في بدايته بأن يوسف وجدها حبلى من الروح القدس، ولكن يوسف شك بها واتهمها بفعل المنكر وهذا يلوح من خلال قوله : "لم يشأ أن يشهرها، أراد تخليتها سرا"، يعني أنه تستر عليها، هكذا كان نصيب السيدة العذراء من يوسف النجار الذي تزعم الأناجيل أنه كان حاميها وخطيبها.

ولو رجعنا إلى ما يقصه القرآن لنا من خبر السيدة مريم، لرأينا توقيراً واحتراماً وبدايات طيبة لهذه القديسة الملائكية، فبينما الإنجيل يتكلم بغموض وعدم وعي ويُبهم لنا طفولة مريم او ما قبلها ويبدأ معها في سن السادسة عشر، نرى القرآن الكريم يُسهب في ذكر ما قبل طفولة مريم وهذا ما نراه يلوح على لسان امها.

كما بينت القرآن لنا فإن مباركة مريم كانت قبل الولادة : ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، وبعد ولادتها رفعت ام مريم يدها للسماء لتطلب من الله أن يحفظها﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ استمع الله تعالى لدعاء هذه الأم الطاهرة :﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾.

وبعد ولادتها ونظرا لمركز عائلتها الاجتماعي اختصم القوم في من يرعاها ويكفلها وذلك أن والدها عمران كان وجيها في قومه ومعلمهم الاكبر، يقول تعالى : ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ وهكذا فاز برعايتها زوج خالتها "النبي زكريا" كما يقول تعالى﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾.

وتابع لنا القرآن وبكل وقار جوانب من التربية والإعداد الإلهي لها فلم تكن تأكل من طعام البشر بل كان الله تعالى يُنزل عليها من طعام الجنة ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾، ثم يُضيف لنا القرآن الكريم بعدا آخر على شخصية مريم وهي اتصالها بالعالم الآخر، فبعد أن انقطعت عن الدنيا في جوف محرابها﴿ فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾، ارسل لها الله تعالى الملائكة تُسليها وتُكلمها ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾.

ثم ينتقل بنا القرآن الكريم إلى المرحلة الثانية من حياة السيدة (عليها السلام) بعد ولادتها فيحكي لنا جانبا من معاناتها وبراءتها على يد ابنها الرضيع (عليه السلام) فيقول ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ والسيدة مريم هي الوحيدة التي سُميت سورة باسمها وهي الوحيدة ايضا التي ذكرها الله باسمها، ولم يكن قبل ولادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أيّ سيدة للنساء سوى السيدة مريم، فقد كانت سيّدة نساء زمانها، هذا باختصار ما حكاه القرآن عن سيرة مريم العذراء (عليها السلام) من قبل الولادة وحتى بعد ولادتها لعيسى (عليه السلام)، ناهيك عن كم هائل من الأحاديث التي تُشيد بشخصيتها.

أما الإنجيل فقد ذكر لنا قصة مريم فجأة ومن دون مقدمات ولا سيرة ولا تاريخ، فزعم أنها كانت مخطوبة ليوسف النجار كما يقول : "كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس)، فكيف تكون مخطوبة وهي منقطعة في محرابها لا ترى بشرا، واستمرت رعاية يوسف لمريم (عليها السلام) حسب ما يقوله الإنجيل حتى زمن بعثة عيسى بن مريم (عليه السلام) كما نقرأ : "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يُظن ابن يوسف".

إن الظن لا يغني من الحق شيئا يضاف إلى ذلك إذا كان عيسى ــ على ما يُظن ــ ابن يوسف النجار ، فلماذا ثار هذا  اللغط بين معاصريه حول ولادته واتهام أمه بالزنا؟ اليس يوسف النجار ابوه على ما يظنه الناس. ؟

لم يكن اختيار يوسف النجار كفيلا لمريم وأبا للسيد المسيح اعتباطيا، فقد كانت خطة مدروسة بعناية من قبل اليهود الذين كانوا يزعمون أنهم أبناء الله وحدهم، ومن أجل أن لا يُنسب السيد المسيح إلى الله مباشرة فيكون أبنه، عمدوا إلى وضع يوسف النجار في سلسلة نسب السيد المسيح ليرجعوا بنسبه إلى نبي الله داود (عليه السلام) وليكسبوا بذلك شرف تربيته وإعداده.

وهكذا تم ربط المسيح بالنبي داود (عليه السلام) فجعلوا عيسى نبيا من أنبيائهم المحليين، ولم يعترفوا برسالته المستقلة، ولم يؤمنوا به، ففي بداية الأمر اعتقد اليهود أن السيد المسيح هو (المُسيّا) الموعود الذي ينتظرونه كما يقولون في تفسير قول الانجيل في نسب المسيح : "المسيح ابن داود)،( هو داود الملك كما ذكرت النبوات. وكان هذا الأمر معروفا عند جميع اليهود أن المسيا المنتظر سيأتي من نسل داود)، ولكن الغريب أن السيد المسيح رفض رفضا قاطعا أن ينسبوه إلى داود عن طريق يوسف النجار وهذا ما نراه يلوح في محاورته مع اليهود كما نقرأ : "وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلا: ماذا تظنون في المسيح ابن من هو؟ قالوا له : ابن داود. قال لهم : فإن كان داود يدعوه ربا ، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة"

يتفق الإنجيل والقرآن في بعض الأمور المتعلقة برعاية وكفالة مريم ولكن الإنجيل يتميز بعدم الوضوح وبتناقض عجيب، لأنه بعدما زعموا أن يوسف هو من كفل مريم وتظاهر أنه خطيبها ليحميها، ولم يُبينوا لنا كيف اصبح يوسف كفيلا لمريم، ولما كانت الأناجيل تشكو من فراغ في هذا الجانب عمد الكهنة إلى الاختلاق فوضعوا اسطورة وهمية لكيف.

مصطفى الهادي

المرفقات