225 ــ مهيار الديلمي: (334 ــ 428 هـ / 945 ــ 1037 م)

مهيار الديلمي: (334 ــ 428 هـ / 945 ــ 1037 م)

قال من قصيدة في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) تبلغ (36) بيتاً:

هوَ الغصنُ كان كميناً فهـبَّ      لدى (كربلاء) بـريحٍ عصوفِ

قتيلٌ به ثــــــارَ غلُّ النفوسِ     كما نغرَ الــجرحَ حكُّ القروفِ

بكلِّ يدٍ أمس قــــــــد بايعته     وسـاقتْ له اليومَ أيدي الحتوفِ (1)

وقال من قصيدة أخرى تبلغ (78) بيتا:

أمــــــــــيّة لابسـةٌ عارَها     وإن خُفي الثأرُ أو حصّلا

فيومُ السقيفةِ يا ابنَ النبيِّ      طرّقَ يومَــك في (كربلا)

وغصبُ أبيــك على حقِّه     وأمُّـــــــك حُسِّنَ أن تُقتلا (2)

الشاعر

أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي البغدادي (3) الفارسي الكاتب (4)، شاعر كبير من أعمدة الشعر العربي في العصر العباسي، ولد في إيران وكان مجوسياً، فقيّض له أن يلتقي بالشريف الرضي فوجد فيه ضالته التي يبحث عنها، فلازمه وتلقى العلم منه وترك مجوسيته وأسلم على يديه واعتنق مذهبه، (5) فتملّك التشيّع شغاف قلبه وخالط لحمه ودمه فجنّد نفسه له، فكان جندياً أميناً ومدافعاً مخلصاً عن مذهبه، فانعكس في نفسه النيّرة فكر أهل البيت ومظلوميتهم فأخرج تأملاتها قولاً وفعلاً وشعراً.

هكذا كان حال مهيار عندما تعرف أهل الأدب في العقد الأخير من القرن الرابع الهجري على شاعر فارسي الأصل ترك دين المجوس واعتنق الإسلام عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) ليشق طريقه في عالم الأدب والشعر وهو ثابت الإيمان، راسخ العقيدة. وليتخذ الشعر رسالة وهدفاً لقول الحق وأي رسالة وهدف أعظم من مناصرة قضية أهل البيت (عليهم السلام).

ينتسب مهيار إلى أرض الديلم، والديلم شعب من ذراري الفرس يُنسبون إلى أرضهم التي تقع في القسم الشمالي من بلاد فارس ويحدّها من الشمال جبال الجولان ومن الشرق طبرستان ومن الغرب آذربيجان أما من الجنوب فمنطقة قزوين.(6) قال ياقوت الحموي: (إن الديلم ينسبون إلى أرضهم بهذا الإسم لا إلى أب لهم). (7)

جاء مهيار إلى بغداد وسكن منطقة درب رباح في الكرخ (8) وكانت بغداد تعيش أوج حضارتها العلمية والثقافية في ظل بني بويه، يقول الدكتور محمود غناوي الزهيري: (امتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاص أو بتأثير وزرائهم، ذلك أنهم استوزروا أبرع الكتاب وأبرزهم، واعتمدوا عليهم في تدبير شؤون الحرب وأمور السياسة والإدارة والمال جميعا، فلمعت أسماؤهم وعظمت هيبتهم وطار صيتهم في الآفاق فقصدهم أهل العلم والأدب فأفادوا منهم كثيراً وأنتجوا كثيراً في ميدان الأدب والفلسفة والعلم، فكان أثرهم في الحياة الفكرية قوياً جداً) (9)

ويقول الدكتور حسين أمين: (قد لا أكون مغالياً إن قلت إن العصر البويهي هو العصر الذي بلغت فيه الحياة الثقافية العربية الإسلامية ذروتها، حيث سمت الآداب نثراً وشعراً وتطورت الدراسات اللغوية وازدهرت الحياة العقلية وتكاملت دراسات الفقه المختلفة، وظهرت البحوث الموضوعية العلمية في التاريخ والجغرافيا، كما برزت الحركة الصوفية والدراسات الدينية على اختلاف مواضيعها من تفسير القرآن الكريم ودراسات للحديث النبوي الشريف، كما تميزت تلك الفترة بأن الدراسات أصبحت تعتمد على منهج علمي وأسلوب موضوعي). (10)

وقد نبغ في ذلك الوقت كبار العلماء والأدباء في التاريخ الإسلامي أمثال: الشيخ الرئيس ابن سينا، والمتنبي، والصابي، وابن نباتة، والشريفان المرتضى والرضي، والمعري، وغيرهم وتبعهم مهيار الديلمي الذي أصبح الشاعر المتصدر لساحة الشعر بعد وفاة أستاذه السيد الرضي.

لازم مهيار الشقاء منذ طفولته وحتى شبابه وسقاه الدهر كأس المرارة حتى الثمالة فكان مهيار يشكو الدهر والفقر والناس:

عيشٌ كلا عيشٍ ونفسٌ مالها     من لذّةِ الدنيا سوى حسراتِها

إن كان عـندكَ يا زمانُ بقيةً     مما يضــامُ بها الكرامُ فهاتِها (11)

وقد رأى أن السبيل إلى حياة كريمة لن يكون إلا عن طريق العلم فأكب على تثقيف نفسه. وكانت موارد الرزق ببغداد في ذلك الوقت للفئة المثقفة متوفرة، ففي قصور الخلفاء والأمراء كانت تلتقي النخبة من الكتاب والشعراء ليصيبوا حظاً وافراً من الثروة والشهرة وهذا ما كانت تصبو إليه نفس مهيار، وكانت الدولة البويهية تشجع طلاب وأرباب العلم والأدب وتدعمهم مادياً، وكان عضد الدولة: يحب العلم والعلماء، ويجري الأرزاق على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحساب والمهندسين. وأفرد لأهل الاختصاص من العلماء والحكماء موضعا يقرب من مجلسه، وأنشأ مكتبة تحتوي على كل كتاب صنف إلى وقته من جميع أنواع العلوم. (12)

وقد أظهر مهيار ذكاءً وقدرة كبيرة على العلم، حيث ألمّ بكثير من شوارد اللغة وحفظ دقائق التاريخ وامتاز بذاكرة عجيبة ساعدته على استيعاب الكثير من المعرفة، كما استحكم حب أهل البيت (عليهم السلام) في قلبه، وأظهر حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في شعره مستقياً في شعره من حياته المعارك التي خاضها في سبيل توطيد أركان الدين والفضائل التي اختص بها دون سواه من سائر الصحابة وكذلك تمجيد الثورة المباركة التي قادها أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء ضد الباطل واستذكار المآسي والفجائع التي حلت بأهل بيته.

ويرجع كل ذلك إلى التأثير الكبير الذي طرأ عليه، ففي فترة تعليمه وتثقيفه اتصل بالشريف الرضي وهو أهم حادث أثر في شخصيته وشاعريته على السواء فالشريف يومذاك حجة الأدباء والأشراف، ونقيب الطالبيين، وأمير الحاج، وكان كريماً محبوباً لدى كل طبقات الناس، وله هيبة في النفوس تتضاءل عندها هيبة الخلفاء والأمراء، فأثر في نفس مهيار كثيراً.

ولقد أحب الشريف مهيارَ وأخذ يسعى في سبيل خدمته والإحسان إليه فسعى بما له من منزلة في تعيين مهيار كاتباً بديوان الخلافة ببغداد، ولكن مهيارَ سرعان ما صرفه عن الكتابة الشعر الذي ملك نفسه، وكان الشريف يتوسّم في مهيار الذكاء والنبوغ والشاعرية فكان يغدق عليه من إحسانه وفضله فأسلم مهيار على يديه واعتنق التشيّع وأصبح المدافع الذي يتّقد حماساً عن دينه ومذهبه.

وبقي مهيار في كنف أستاذه الشريف إلى أن لاقى الشريف ربه عام (406 هـ) وكان طوال حياته الحامي الأمين والصديق المعين لمهيار وقد أحسّ مهيار بهول الفجيعة التي ألّمت به فمضى يرثي أستاذه برثائيات مفجعة في قصائد عديدة وفي مناسبات شتى، قال في إحداها:

أقـريـش لا لـفــمٍ أراكِ ولا يــدِ     فـتواكلـي غـاض الندى وخلا الندي

بكر النعي, فقال: أُرديَ خيرُها     إن كان يصدقُ فالشريف هو الردي (13)

وفي هذه القصيدة تفجّع أليم وشعور بالمصاب عظيم فمهيار يبكي من كان عونه وساعده في الحياة, لكن مهيارَ بعد وفاة الشريف الرضي، وابن نباتة السعدي أصبح رجل الأدب والشعر في بغداد بدون منازع. حتى عُدّ في الرعيل الأول من ناشري لغة الضاد وموطّدي أسسها. (14)

قالوا فيه

قال الباخرزي: (هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر, وكاتب تحت كل كلمة من كلماته كاعب, وما في قصائده بيت يتحكم عليه بلو وليت، وهي مصبوبة في قوالب القلوب، وبمثلها يعتذر الدهر المذنب عن الذنوب). (15)

وقال الخطيب البغدادي: (كان شاعراً جزل القول، مقدماً على أهل عصره مع كثرة فحولة الأدب فيه، وكان يحضر جامع المنصور في أيام الجمعات ويقرأ على الناس ديوان شعره). (16)

وقال عنه ابن خلكان: (كان جزل القول مقدماً على أهل وقته) (17)

وقال ابن بطلان الطبيب البغدادي: (ومن متقدمي علوم الأدب والكتابة، علي بن عيسى الربعي، وأبي الفتح النيسابوري، ومهيار الشاعر، وأبو العلاء المعري، فانطفأت سُرج العلم، وبقيت العقول بعدهم في الظلمة..) (18)

وقال عنه الذهبي: (الأديب الباهر، ذو البلاغتين، أبو الحسن الديلمي، الفارسي ... نظمه جزل حلو، يكون ديوانه مائة كراس..) (19)

وقال عنه الحر العاملي: (المولى الجليل مهيار بن مرزويه، أبو الحسن الديلمي البغدادي. فاضل شاعر أديب، من شعراء أهل البيت عليهم السلام المجاهرين من غلمان الشريف الرضي، جمع بين فصاحة العرب ومعاني العجم) (20)

وقال عنه السيد محسن الأمين: (لا أستطيع أن أتمثّل له ندّاً سوى ابن الرومي، وإن كان ابن الرومي يقصر عنه في بعض الأحيان، ولا يجاريه في الإسهاب والتطويل). (21)

وقال السيد جواد شبر: (في الرعيل الأول من ناشري لغة الضاد دل على ذلك شعره العالي وأدبه الجزل وديوانه الفخم وكما كان عربياً في أدبه فهو علويُ في مذهبه مسلم في دينه يعتز ويفتخر بإسلامه ويتمدح بآبائه الأكاسرة ملوك الشرق وجمع بين فصاحة العرب ومعاني العجم أسلم على يد السيد الشريف الرضي سنة ٣٩٤ وتخرج عليه في الأدب والشعر ... وجاهد بلسانه عن أهل البيت ومدح علياً وعدد مناقبه بشعر بديع ودافع عن حقوقه في الخلافة دفاعاً حاراً مؤثرا.). (22)

وقال الدكتور عصام عبد علي: (وكانت قصائد مهيار تطلب، وتبذل من أجلها الأموال، ومهيار مفتخر بهذا المجد الشعري الكبير، والذين يطلبون أشعار مهيار لم يكونوا من الثلة الذين وثبوا على دست الحكم، فأكثرهم من ذوي العلم والثقافة والأدب) (23)

كما ترجم له الشيخ عبد الحسين الأميني ترجمة وافية ورد على من انتقصه ورماه بالغلو بسبب تشيعه من المؤرخين فقال: (أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي البغدادي نزيل درب رياح بالكرخ هو أرفع راية للأدب العربي منشورة بين المشرق والمغرب، وأنفس كنز من كنوز الفضيلة، وفي الرعيل الأول من ناشري لغة الضاد، وموطدي أسسها، ورافعي علاليها، ويده الواجبة على اللغة الكريمة ومن يمت بها وينتمي إليها لا تزال مذكورة مشكورة يشكرها الشعر والأدب، تشكرها الفضيلة والحسب، تشكرها العروبة والعرب، وأكبر برهنة على هذه كلها ديوانه الضخم الفخم في أجزائه الأربعة الطافح بأفانين الشعر وفنونه وضروب التصوير وأنواعه، فهو يكاد في قريضه يلمسك حقيقة راهنة مما ينضده، ويذر المعنى المنظوم كأنه تجاه حاستك الباصرة، ولا يأتي إلا بكل أسلوب رصين، أو رأي صحيف، أو وصف بديع، أو قصد مبتكر، فكان مقدماً على أهل عصره مع كثرة فحولة الأدب فيه، وكان يحضر جامع المنصور في أيام الجمعات ويقرأ على الناس ديوان شعره ....

أما شعره في المذهب فبرهنة وحجاج فلا تجد فيه إلا حجة دامغة، أو ثناءً صادقاً، أو تظلّماً مفجعاً، ولعل هذه هي التي حدت أصحاب الإحن إلى إخفاء فضله الظاهر والتنويه بحياته الثمينة كما يحق له، فبخست حقه المعاجم، فلم تأت عند ذكره إلا بطفائف هي دون بعض ما يجب له، غير أن حقيقة فضله أبرزت نفسها، ونشرت ذكره مع مهب الصبا، فأين ما حللت لا تجد للمهيار إلا ذكراً وشكراً وتعظيماً و تبجيلاً، وعلى ضوء أدبه وكماله يسير السائرون.

ولعمر الحق إن من المعاجز أن فارسياً في العنصر يحاول قرض الشعر العربي فيفوق أقرانه ولا يتأتى لهم قرانه، ويقتدى به عند الورد والصدر، ولا بدع أن يكون من تخرج على أئمة العربية من بيت النبوة وعاصرهم وآثر ولائهم واقتص أثرهم كالعلمين الشريفين: المرتضى والرضي وشيخهما شيخ الأمة جمعاء المفيد ونظرائهم أن يكون هكذا، إلا تاهت الظنون، وأكدت المخائل في الحط من كرامة الرجل بتقصير ترجمته، أو التقصير في الابانة عنه، أو التحامل عليه بمخرقة، والوقيعة فيه برميه بما يدنس ذيل أمانته كما فعل ابن الجوزي في (المنتظم) فجدع أرنبته باختلاق قضية مكذوبة عليه، ورماه بالغلو، وحاشاه عن كل ذلك، إن يقولون إلا كذبا.

فهذا مهيار بأدبه الباذخ، وفضله الشامخ، وعرفه الفائح، ونوره الواضح، ومذهبه العلوي، وقريضه الخسرواني، قد طبق العالم ثناء وإطراء ومكرمة وجلالة، وما يضره أمسه إن كان مجوسياً فارسياً فيه، وها هو في يومه مسلم في دينه، علوي في مذهبه، عربي في أدبه، وها هو يحدث شعره عن ملكاته الفاضلة، ويتضمن ديوانه آثار نفسياته الكريمة، وخلد له ذكرى مع الأبد، فهل أبقى أبو الحسن مهيار ذروة من الشرف لم يتسنمها ؟! أو صهوة من النبوغ لم يمتطها ؟! ولو كان يؤاخذ بشيء من ماضيه لكان من الواجب مؤاخذة الصحابة الأولين كلهم على ماضيهم التعيس غير أن الإسلام يجب ما قبله، فتراه يتبهج بسؤدد عائلته المالكة التي هي أشرف عائلات فارس، ويفتخر بشرف إسلامه وحسن أدبه ... ) (24)

وهذا القول يغنينا عن تتبع بقية الأقوال في حقه في كثير من المصادر والمراجع اللغوية والتاريخية.

شعره

كان مهيار غزير المادة قل من جاراه من شعراء العربية في كثرة شعره فكانت بعض قصائده تقارب الثلاثمائة بيت وقد اجتمع لديه ديوان ضخم في أربعة أجزاء جمع بين دفتيه (20969) بيتاً موزّعة على (409) قصيدة دلت على شاعرية فذة وإبداع أصيل فتربع على رأس الحركة الأدبية في أواخر القرن الرابع الهجري وحتى وفاته في بغداد.

أسلم مهيار عام 394 هـ وكان هواه علويّاً شيعياً قبل أن يسلم فكان التشيّع مرقاته إلى الإسلام الصحيح فهو قد ولج الإسلام من بابه الصحيح الواسع وسلك طريقه المستقيم اللاحب.

قال من قصيدة قالها عام 387 هـ أي قبل أن يسلم بسبعة أعوام من قصيدة تبلغ (42) بيتاً:

ما برحتْ مــظلمةٌ دنياكمُ     حــتى أضاءَ كوكبٌ من هاشمِ

حـلـلـتـمُ بـــــهـديـهِ ويُمنهِ     بعد الوهادِ في ذرى العواصمِ

ثم قضى مـسلّماً من ريبةٍ     فلمْ يـــكنْ من عـــذركمْ بسالمِ

نقضتُم عهــــودَه في أهلِهِ     وحلتُم عـن سُنــــــنِ المراسمِ

وقد شهدتمْ مقتلَ ابنِ عمِّه     خـيرِ مصـــــــلٍّ بعده وصائمِ

وما استحـلَّ باغياً إمامكم     يزيد بالطفِّ مــــــن ابن فاطمِ (25)

وقال من قصيدة في رثاء أمير المؤمنين والإمام الحسين (عليهما السلام) تبلغ (47) بيتاً:

جوىً كلّما استخفى بنجــــدٍ أهاجَه      سنا بارقٍ من أرض كوفانَ خاطفِ

يذكّرني مـثـوى عـلــــــيٍّ كـأنـنـي     سـمـعتُ بـذاكَ الرزءِ صيحة هاتفِ

أبا حسنٍ إن أنكروا الـحق واضحاً     عـلــــــى أنــه والله إنـكـارُ عـارفِ

أخـصَّـكَ بـالـتـفـضـيـلِ إلّا لــعلمه     بعجزهمُ عــــن بعضِ تلكَ المواقفِ

سـلامٌ عـلـى الإسـلامِ بعدكَ إنّهــم     يـسومونه بالجـــــــورِ خطةَ خاسفِ

هـواكـمْ هـو الـدنـــــيـا وأعلم أنـه      يبيّـضُ يـومَ الحشرِ سـودَ الصحائفِ (26)

ومنها في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام):

وجدَّدها بالطفِّ بابنِكَ عصـــــبةٌ     أبــاحوا لذاكَ القرفِ حكّة قارفِ

يـعـزُّ عـلـى محمدٍ بابـــــــنِ بنتِه     صبيبُ دمٍ من بينِ جنبيكَ واكفِ

أجازَوكَ حقاً في الخلافةِ غادروا      جـوامـعَ منه في رقابِ الخلائفِ

أيا عاطشاً في مصرعٍ لو شهدتُه      سقيتكَ فيه من دموعي الذوارفِ

ويتبين من هذه الأبيات أن مهيارَ لم يدخل الإسلام إلّا بعد أن عرف أهله، ولم يتخذ الدين وسيلة للوصول إلى غاية ما كما زعم بعض الكتّاب من الذين حاولوا تشويه صورة مهيار لا لشيء سوى لأنه عرف الحق فاتبعه ووجد الطريق فسلكه فغاظهم ولاؤه الخالص لأهل البيت الطاهرين (عليهم السلام). فما إن اعتنق الاسلام حتى زها سروراً كبيراً ويتضح ذلك من خلال هذين البيتين:

هوَ المنقذي من شركِ قومي وباعثي      على الرشدِ إن أُصفي هوايَ محمَّدا

وتاركِ بـيـتَ الـنـارِ يـبـكـي شـرارَه     عـلـيَّ دمـاً إن صـارَ بـيـتـيَ مـسجِدا (27)

فدخل مهيار الإسلام دخول الواثق المطمئن بل أنه يفخر بذلك ويعتقد أنه خير دين ونرى ذلك من خلال إحدى قصائده الكثيرة في هذا المجال حيث يقول:

قد قبستُ المجدَ من خيرِ أبِ     وقبستُ الديـنَ مـن خيرِ نبي

وضممـتُ الفخرَ من أطرافِهِ     سؤددَ الفــرسِ ودينَ العربِ (28)

وهناك قصيدة لها دلالة واضحة على هذه الغبطة العظيمة الصادقة التي شعر بها بانتقاله من دين الكفر إلى دين الايمان ومذهب الحق فقال مخاطباً قومه:

تبـدّلتُ من نارِكم ربَّها     وخبثَ مــواقدِها الخلدَ طيبا

أفيئوا فقـد وعدَ اللهُ في     ضـلالـــةَ مـثـلــكـمُ أن يتوبا

وإلّا هلموا أُباهيـــــكمُ     فمَن قامَ والفخرَ قامَ المصيبا

أمثل محمدٍ المصطفى     إذا الحـكم ولــــيــتـمـوه لبيبا (29)

أما شعره في التشيّع فكان برهنة وحججاً على أحقية ومظلومية أهل البيت (عليهم السلام), فلا تجد فيه إلا حجة دامغة، أو دليلاً قاطعاً، أو ثناءً صادقاً، أو تظلماً مفجعاً، صبّها في أسلوب رصين، وقصد مبتكر، وتصوير بارع، وضع مهيار في مصاف شعراء الشيعة الكبار أمثال: السيد الحميري، والكميت، ودعبل، يقول من قصيدته التي قدمناها في رثاء أهل البيت وتبلغ (36) بيتاً:

بآلِ عـليٍّ صــــــروفُ الـزمانِ     بسطنَ لساني لـــــــذمِ الصروفِ

مصابي على بعدِ داري بــــهمْ     مــصابُ الألـــــــيفِ بفقدِ الأليفِ

وليسَ صديقيَ غـــــير الحزينِ     ليـومِ الحــــــسينِ وغير الأسيفِ

هوَ الغصنُ كــــان كميناً فهـبَّ     لدى (كـــربلاء) بــريحٍ عصوفِ

قتيلٌ به ثــــــــــارَ غلُّ النفوسِ     كما نغــــرَ الــجرحَ حكُّ القروفِ

بكلِّ يدٍ أمس قـــــــــــــد بايعته     وسـاقـتْ له اليومَ أيـدي الحتوفِ

نسوا جدَّه عـنـد عـــهــدٍ قريبٍ     وتـالَـــــــدَه مـع حـــــــقّ طريفِ

فطاروا له حــــامـليـــن الـنفاق     بأجــــنحةٍ غِشّـــــها في الحفيفِ

يـعـزّ عـــلـيّ ارتـقـاءَ الــمنونُ     إلــــى جـــــــبلٍ منكَ عالٍ منيفِ

ووجــهُكَ ذاك الأعــزّ الـتريب      يُـــشهّرُ وهو على الشمسِ موفي

وأنتَ - وإن دافــعوك - الإمام     وكــــــــان أبـوكَ بـرغمِ الأنـوفِ

لــــــمن آيــــةُ البابِ يومَ اليهود     ومَن صاحبُ الجنّ يومَ الخسيفِ

ومَن جــــمعَ الدينَ في يومِ بدرٍ     وأحـدٍ بـتــــــفريقِ تلكَ الصفوفِ

وهـــــدّمَ فــــي اللهِ أصـنـامَـهـمْ     بـمـرأى عـيــــونٍ عـليها عكوفِ

أغـيـرُ أبـيــــــــكَ إمـامُ الـهـدى     ضـيـاءُ الـنـديّ هــــزبرُ العزيفِ

تـفـلّـلَ ســـــيـــفٌ به ضرّجوك     لـسـوّدَ خـزيـاً وجـوهَ السيــــوفِ

أمـــــــــــــرّ بفيّ عليك الزلال     وآلم جلدي وقع الـــــــــــــشفوفِ

أتحملُ فـــــقدَك ذاك الــــعظيم     جوارح جسمي هذا الضعيـــــفِ؟

ولهفي علـــــيك مقــــالُ الخبيـ     ـر: أنك تبردُ حــــــــــــرّ اللهيفِ

أنشرك ما حــــــــــملَ الزائرو     ن أم المسكُ خالط تُرب الطفوفِ؟

كأنَّ ضريحَكَ زهـــُر الــــربيـ     ـعِ هبّت عليهِ نسيمُ الخــــــــريفِ

أحبّكم ما سعى طـــــــــــــائفٌ     وحنّت مــــــــــطّوقة في الهتوفِ

وإن كنت من (فارس) فالشريـ     ـفُ معتلقٌ ودّه بــــــــــــالشريفِ

ركبت ـ على مـــــــن يعاديكم     ويفسد تفضــــــــــيلكم بالوقوفِ ـ

سوابق مـــــن مدحكم لم أهَب     صُعوبة ريّضها والــــــــــقَطوفِ

تُقَطّر غيرى أصـــــــــــلابها     وتزلّق أكفالـــــــــــــــها بالرديفِ

ومن قصيدة يذكر فيها أمر الخلافة وما جرى بعد وفاة الرسول تبلغ (49) بيتاً:

هــــــــذي قضايا رسولِ اللهِ مهملةً     غــدراً, وشملُ رسولِ اللهِ مُنصـدعُ

والناسُ للعهدِ ما لاقوا وما قـــربوا     وللــخيـــانةِ ما غابوا ومـا شـسـعوا

وآلهِ وهــــــــــــمُ آلُ الإلــــهِ وهـمْ     رعـاةُ ذا الدينِ ضِيمُوا بعده ورُعُوا

ميـثـاقُه فـيــــهـمُ مـلـقــــىً وأمَّـتُـه     مـعْ مـن بـغـاهـمْ وعـاداهمْ لهُ شِـيَعُ

تُضـاعُ بـيعتُه يـوم (الغـــدير) لهم     بـعد الرضـا وتحـاط الرومُ والـبيـعُ

وقائل لي: عليٌّ كـــــــــــان وارثه     بالنصِّ منه فهل أعطوه؟ أم منعوا؟

فقلتُ: كانت هناتٌ لـــستُ أذكرُها     يـــــجزي بها اللهُ أقواماً بما صنعوا

أبلغْ رجالاً إذا ســـــــمَّيتهمْ عرفوا     لهم وجــــــــوهٌ من الشحناءِ تمتقعُ

توافقوا وقناةُ الديــــــــــنِ مــــائلةٌ     فحينَ قامتْ تــلاحوا فـيه واقترعوا

أطاعَ أوَّلهم في الغدرِ ثــــــــانيهمْ     وجاءَ ثالثهم يقفـــــــــــــــــو ويتّبعُ

قفوا على نظرٍ في الحقِّ نفــرضه     والعقلُ يفصلُ والمحجــوجُ ينقطعُ

بـأيِّ حـكـمٍ بـنـوهُ يـتـــــبـعـونـكـمُ     وفخركـمْ أنكمْ صـحـــــــبٌ لـه تبعُ

وكيف ضاقتْ على الأهلين تربته     وللأجــــــانبِ في جنبيهِ مضطجَعُ (30)

وقال من قصيدة أخرى تبلغ (39) بيتا في أهل البيت (عليهم السلام) شرحها السيد جمال الدين أحمد بن طاووس (قدّس‌ سره) وسماها (الأزهار في شرح لامية مهيار) (31) يقول منها:

معشرُ الرشدِ والهدى حَكَم البغـ     ـيُ عليهمْ سفاهةً والضـلالُ

ودعاةُ اللهِ استـــــــجابتْ رجالٌ     لـــهمُ ثـم بُــدّلوا فاسـتـحالوا

حـمـلـوهـا يومَ الســــقيفة أوزا     راً تخفُّ الجـبالُ وهـيَ ثقالُ

ثم جاؤوا من بعدِها يستـقـيـلـو     نَ وهيهاتَ عـثــــرةٌ لا تُقالُ

يا لها سـوءةً إذا أحـمــــــدَ قـا     مَ غـداً بـيـنـهـم فـقالَ وقالـوا

ربعُ هـمـيّ عـلـيـهـمْ طـلَـلٌ با     قٍ وتُبلى الـهمــومُ والأطلالُ

يا لـقـومٍ إذ يـقـتلـــــــونَ علياً     وهـو لـلـمُحــــلِ فــيـهمُ قـتّالُ

وتحالُ الأخبــــارُ والله يدري      كيف كانت يوم الغديرِ الحالُ

ولـسـبـطـيـن تـابـعَـيه فمسمو     مٌ عليــــــــه ثرى البقيع يُهالُ

وشهيدٍ بالطـفِّ أبـكى السموا     تِ وكـــادتْ له تزولُ الجبالُ

يا غليلي له وقد حُـــــرِّمَ الما     ءُ عـليه وهوَ الشرابُ الحلالُ

لـم تنجِّ الكهولُ سنٌّ ولا الشـ     ـبّـانُ زهـدٌ ولا نـجـا الأطـفـالُ (32)

وبلغ من حبه لأهل البيت (ع) أن يجد صلة تربطه بهم ليفخر بها وهذه الصلة ترده إلى جذور قديمة حيث يرجعها إلى سلمان الفارسي الصحابي الجليل الذي كان موالياً لأمير المؤمنين (ع) وهذه العلاقة رددها في كثير من المواضع في شعره ليدل على إخلاصه الصادق وولائه المحض وعقيدته الراسخة وحبه لأهل البيت (ع) منها قوله:

سلمان فيها شفيعي وهو منكَ إذا الـ     آباءُ عندكَ في أبنائِهم شُفِعوا (33)

لقد اخلص مهيار لأهل البيت (ع) رغم كونه من غير قومهم, ولكن الشريف كما يقول يحن إلى الشريف يقول من قصيدته التي قدمناها:

وإن كنتُ من فارسٍ فالشـريف     معتلقٌ ودّه بالشـريفِ

ومن قصيدة في أهل البيت تبلغ (63) بيتاً

هذا لهم والقـوم لا قومي هم     جنساً وعقرُ ديـارِهم لا داريا

إلا المحبـة فالكـريـمُ بـطبعِهِ     يـجـدُ الـكـرامَ الأبعدين أدانيا (34)

ويدين بفضل أهل البيت (ع) عليه بعد أن اهتدى بهداهم إلى الإسلام، يقول من قصيدة تبلغ (49) بيتاً

وفيكم ودادي وديـــــــني معاً     وأن كان فـي فارسٍ مولدي

خصمتُ ضـلالي بكم فاهتديـ     ـت ولولاكمُ لم أكـنْ اهـتدي

وجرّدتمونــــي وقد كنت في     يدِ الشــركِ كالصارمِ المغمدِ

وما فاتني نصركمُ بالـــلسانِ     إذا فاتـــــني نصـركمُ بـالـيـدِ (35)

................................................................................

1 ــ ديوان مهيار الديلمي ــ طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة ط1 ــ 1344 هـ / 1925 م ج 2 ص 262 ــ 264

2 ــ نفس المصدر ج 3 ص 48 ــ 52

3 ــ أمل الآمل ج ٢ ص ٣٢٩

4 ــ تاريخ بغداد ج 15 ص 372

5 ــ اتفقت على ذلك كل المصادر التي ترجمت له

6 ــ مسالك الممالك للأصطخري ص 304

7 ــ معجم البلدان ج 2 ص 544

8 ــ الغدير ج ٤ ص ٢٣٨ 

9 ــ كتاب التشيّع للدكتور محمد زين الدين ــ مركز الرسالة سلسلة المعارف الإسلامية (52) ص 193 ــ 194 عن كتاب: الأدب في ظل بني بويه، للزهيري / ط القاهرة 1949

10 ــ نفس المصدر والصفحة

11 ــ ديوانه ج 1 ص 164 من قصيدة تبلغ (75) بيتاً

 12 ــ كتاب التشيّع ص 195

13 ــ ديوانه ج 1 ص 249 من قصيدة تبلغ (61) بيتاً

14 ــ مهيار الديلمي ــ حياته وشعره للدكتور عصام عبد علي دار الحرية للطباعة، بغداد وزارة الإعلام العراقية 1396 هـ / 1976 م ص 323

15 ــ دمية القصر ج 1 ص 303

16 ـــ تاريخ بغداد ج 15 ص 372   

17 ــ وفيات الأعيان ج 2 ص 277

18 ــ عيون الأنباء في طبقات الأطباء لأبي العباس ابن أبي أصيبعة (أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي، موفق الدين) ج 2 ص 241 

19 ــ سير أعلام النبلاء ج 17 ص 472

20 ــ أمل الآمل ج 2 ص 329

21 ــ أعيان الشيعة ج 10 ص 171

22 ــ أدب الطف ج 2 ص 236

23 ــ مهيار الديلمي ــ حياته وشعره ص 324

24 ــ الغدير ج ٤ ص ٢٣٨

25 ــ ديوانه ج 3 ص 333 ــ 336

26 ــ نفس المصدر ج 2 ص 259 ــ 262

27 ــ نفس المصدر ج 1 ص 233 من قصيدة تبلغ (61) بيتاً

28 ــ نفس المصدر ج 1 ص 64

29 ــ نفس المصدر ج 1 ص 12 ــ 14 من قصيدة تبلغ (35) بيتاً

30 ــ نفس المصدر ج 2 ص 181 ــ 184

31 ــ أدب الطف ج 2 ص 237

32 ــ ديوانه ج 3 ص 15 ــ 17

33 ــ نفس المصدر ج 2 ص 181 ــ 184

34 ــ نفس المصدر ج 4 ص 198 ــ 202

35 ــ نفس المصدر ج 1 ص 298 ــ 300

كما ترجم له وكتب عنه:

عباس القمي / الكنى والألقاب ج 2 ص 246 ــ 247 ــ سفينة البحار 2 ص 563

ابن شهرآشوب / معالم العلماء ص 148

السيد حسن الصدر / تأسيس الشيعة ص 214

ابن خلدون / العبر ج 2 ص 260

ابن الجوزي / المنتظم ج 8 ص 94

ابن كثير / البداية والنهاية ج 12 ص 41

ابن تغري بردي / النجوم الزاهرة ج 5 ص 26

ابن العماد / شذرات الذهب ج 3 ص 242

ابن الأثير / الكامل في التاريخ ج 9 ص 456

عمر رضا كحالة / معجم المؤلفين ج ١٣ ص ٣٣

اليافعي / في مرآة الجنان ج 3 ص 47

الزركلي / الأعلام الزركلي ج 3 ص 1079

فريد وجدي / دائرة المعارف 9 ص 484

السيد على الفلال ــ مهيار الديلمي وشعره

حمزة حسن الرفاتي ــ الطبيعة في شعر مهيار

عبد الرحمن محمد الهويدي ــ شعر المناسبات عند الشاعر مهيار الديلمي

جمال علي زكي بسيوني ــ الاتجاه الوجداني في شعر مهيار الديلمي

عامر صلال راهي ــ لغة شعر مهيار الديلمي

عثمان عبد السلام السوادحة ــ الصورة الفنية في شعر مهيار الديلمي

الدكتور فالح حمد أحمد والباحث حسام جاري زوير ــ اقتباس الحيث النبوي الشريف في شعر مهيار الديلمي

الدكتور ياسر علي عبد ــ الحس الإنساني وبواعثه في شعر مهيار الديلمي

المرفقات

كاتب : محمد طاهر الصفار