التحولات الفنية.. تحول في المفاهيم الانسانية والفكرية

لعل أهم ما يميز بنية الفنون هو سمة التحول المتأني من حراك الأساليب الفنية عبر العصور والحضارات المختلفة، فما أن يستقر أسلوب خاص ويطبع المنجزات الفنية بطابعه حتى يحل محله أسلوب أخر يوحد الأشكال بنظم من العلاقات الشكلية الخاصة به، ومدعاة مثل هذه التحولات المرتبطة في معظم الأحوال بالتجديد والنشاط المستمرين هو تطور وتحول منظومة العوامل المهيمنة على البنية الفنية من حال إلى آخر مثل العوامل الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية او الدينية العقائدية، اضافة  إلى العامل الذاتي الذي يضطلع به الفنان ودأبه لتنمية وسائل الدعم المباشرة للأسلوب سواء ما تعلق منها بالخامات المستثمرة لإنتاج اعماله أو مراقبة تنامي الأشكال التي تدفع بالأسلوب قدما نحو التحول البنائي، ولعل ما يتمتع به إنسان اليوم من تطور وعمران وتقدم ليس وليد العفوية، بل نتيجة مروره بمراحل عدة فهو وليد سلسلة من التفاعلات بين ما هو ذاتي وموضوعي في أن واحد.

 تحدث التحولات بصورة منتظمة وتكون على انواع عديدة،  فالتحول بمعناه الدقيق هو صيغة تلحق بالمتغيرات على نمط ما تتغير إزاءه المنظومات البنائية لأي مركب انجازي في حقل البصريات أو الحقول المجاورة.. ويكون ذلك بفعل ضواغط ومؤسسات خارجية تسهم في هذا التحول فهماً لما هو معرفـي وما هو تقني، إضافة إلى التبدلات الرؤيوية للتجربة الفنية الواحدة عندما تمر بوسائط وخامات متنوعة تقتضيها طبيعية الأسلوب والاتجاه الفني الذي يشتغل عليه الفنان لتخطي الواقع وأشيائه وابتداع عوالم خاصة تمثل التحول الدائم للمشهد والتغيير المستمر للزمن والانطباع الآني للفنان عن المشهد المرسوم،  فالتحول حتمي لأجل المعرفة الفنية والابداع، كما إن التحول في المعرفة الفنية يختلف عنه في المعرفة العلمية، على اعتبار أن التطور في العلم يرتبط بالعدد والتقنيات والأدوات التي تدخل في عملية الانجاز، كما يشمل التطور جميع الوسائط الناقلة وقدرتها على تحقيق أفضل مظهر للمنجز، لذلك يتطور الجزء التقني للفن ويتحول الجانب الرؤيوي الذي يقود وينشئ الأسلوب والاتجاه والعملية الفنية بكليتها، فالتحول على هذا الأساس، صفة ملازمة للمعرفة الفنية ينتقل وعبرها بها متغيراً في خصائص العمل الفني من صيغة بنائية إلى أخرى.

لقد غيّر الفن او الفنان مبادئه عبر شتى المراحل التاريخية ولأكثر من مرة، وكانت استساغة وهضم التحولات مرهونا بأمور كثيرة، فالفن بلا شك له أسس ومعايير يقاس من خلالها ويكون محكوم بها.. وهي بدورها محكومة بالمجتمع، ونتيجة لذلك اصبح الفن مختلفا من عصر إلى عصر، وذلك تبعا لتغيير المعايير التابعة وتحولات المفاهيم الإنسانية ، وكذلك لتغيير الاتجاهات الفكرية التي لا تشكّل أساسا للفن وحده، بل للمجتمع بأجمعه،  فعندما تتغير الاحداث وفق التحولات السريعة المفاجئة، يتغير مجرى الصراع وأشكاله وقوانينه، فعند حدوث التحولات في بنى المجتمعات المختلفة والظواهر المرافقة لها، تبرز ظواهر جديدة تحتاج إلى رؤية وتعبير يختلف عما في سابقتها كليا أو جزئيا أو بإضافة بعض التعبيرات وفق التغيرات والتحول الفني، وهذا ما نلمسه حين مراجعتنا وتتبعنا لكل ناحية من نواحي الحضارات المختلفة، حيث نلمس مثل هذه التحولات التي تتخذ فيه القيم الحضارية القديمة وبمرور الزمن صورا أخرى مغايرة لتلك التي انبثقت عنها او التي سبقتها، حتى بات كل عصر يعيد صياغة مختاراته الفنية والأدبية من زاوية رؤياه العصرية.

أن تتبع المتغيرات والتطورات في الفن، يكشف عن وجود حوافز أو بواعث ذاتية وموضوعية دافعية لبنية هذه المتغيرات استجابة للحاجة الجديدة عند المجتمع، وهذا الحافز الجديد هو الذي يحدد مضمون العمل الفني، وأحياناً كثيرة يحدد شكله، وان كل تغيير في تاريخ الفن يأتي نتيجة تغير هذا الحافز، أي فور تبدل المعتقدات والقيم في بيئة معينة، فالتغير في الحافز يتخذ صيغتين مختلفتين، أولهما ضعف الحافز القديم أمام الحافز الجديد وثانيهما زوال الحافز القديم أمام الحافز الجديد، فإذا كان الفن يعبر عن مسالك عامة ومفاهيم نظرية لمجتمع ما، فانه من الضروري أن يتجدد هذا العمل عندما يتحول المجتمع تحولا جذريا وتنقلب معه المقاييس كلها، وبهذا يصبح الفن جزءا لا يتجزأ من حركة التغيير والتحول في التشكيلات الاجتماعية السائدة تاريخيا في المجتمع الواحد.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات