أثبتت الدراسات في مجال الإبداع الفني والأدبي أن من الصعوبة تحديد التفكير الإبداعي بمراحل قاطعة حتى وإن كانت متصلة أو متسلسلة بوصفه تشكيلاً ديناميكياً تمتزج فيه المراحل المتعددة، ولا يمكن الفصل بين الإبداع ــ والإبداع في العمل الفني والأدبي باعتبارات نقدية لأن الإبداع في كل شيء يمثل حقيقة قائمة على وجود أربع مراحل هي الإعداد، الاحتضان، الإشراق، التحقيق.
إن ماهية الإبداع بمعناه العام يمكن تحديدها على أبسط التعاريف بـ (القدرات التي تكون مميزة للأشخاص المبدعين)، غير أن الإبداع في العمل الفني والأدبي تتعدد تعاريفه لدى المتخصِّصين في العصور المختلفة بعد ظهور دراسات وأبحاث مهمة في هذا المجال وإنشاء مدارس نقدية حديثة والاهتمام بمجال المبدعين، ومن هذه التعاريف للإبداع (الدهشة الفعالة) أي المنتجة وهناك من عرَّف الإبداع في العمل الفني والأدبي بـ (رسالة موجهة من الأنا المبدع إلى الآخر المتلقي) بقصد التوصّل إلى ما يمكن أن نطلق عليه حالة الـ (نحن) أي توحيد (الأنا ــ والآخر) في حالة نفسية واحدة تجمع بينهما وتزيل ما بينهما من فوارق واختلافات في وجهات النظر والآراء والانفعالات.
وهناك تعاريف أخرى كثيرة لماهية الإبداع أشارت إلى أن هناك عنصراً أساسياً يتصل اتصالاً وثيقاً بالإبداع ويحدد مستوى نجاحه ألا وهو عنصر الجمال، فالجمال أساس الإبداع في شتى مجالاته، وعلى مدى تاريخ تطور البشرية تطور الوعي الجمالي من خلال مرورهِ بمراحل متعددة غيّرت منه وبدّلت من طبيعته.
ولم يتوصّل الباحثون إلى زمن نشوء الفن الجمالي بالتحديد، فالجماليات عامة فضلاً عن معارفها قد تواجدت عبر طريق تاريخي طويل يمثل آلاف السنين في تاريخ تطور الثقافات المختلفة حتى وصلنا اليوم إلى وجود مادة علمية حية تحتل مكانها في الجامعات المتقدمة يطلق عليها (علم الجمال) أو (الاسطاطيقا)، وقد تعرضت الجماليات لأبحاث عدة ــ وفي كل زمان ومكان ــ عبر تاريخها الطويل حتى استطاعت أن تحتل مكانها بين علوم الآداب والفنون وعلم الفلسفة وعلم الاجتماع (السسيولوجيا).
وعلى الرغم من امتداد البحث في المشكلة الجمالية منذ العصر القديم إلّا أن هناك تعابير متشابهة قديماً وحديثاً للجمال، فقد اشتملت الكلمة اليونانية القديمة للجمال على الفن أيضاً وعلى حد تعبير ديمقريطس: (إن الفن الحقيقي عادة ما يكون جميلاً) وكان سقراط من أشد المؤيدين لـ (فن) الجمال، وقد أدى هذا التأييد إلى إثراء النظرية الجمالية بعد أن أضاف إلى الجماليات في بداية الطريق، المقاييس والمعايير الحسية والسمعية والبصرية ولفت إليها الأنظار باعتبار أن الجمال يُرى ويُسمع.
كما نرى اهتماماً آخر بالجمال عند أفلاطون الذي ركّز على الجمال المثالي المدرك الذي يخرج من تضافر عنصر الجمال والأخلاق ليعكس الخير في الأرض الطيبة، لكن مما لا شك فيه أن أرسطو كان أكثر المهتمين القدامى بمشكلة الجمال سواء فيما قدمه أو فيما راجعه من نظريات وأقوال من سبقوه في هذا المجال متجنّباً عناصر الفكر عند افلاطون وبخاصة هذه العلاقة بين الخير الأخلاقي والجمال ومتوجهاً إلى الفروقات بين الفلسفة الأخلاقية والجمال حتى وصل إلى إمكانية التعبير الفني عن أشياء قبيحة لا تحمل من عناصر الجمال كثيراً.
كما لفت الأنظار إلى دور التراجيديا ودور الكوميديا (المأساة والملهاة) وأوجد مقعداً للدراما في كتابه (فن الشعر) كاشفاً النقاب عن النوعيات الجمالية فيها ومقدماً الخطوة الحقيقية الأولى نحو التصور الواقعي لجماليات الفنون بما نعده اليوم التراث الأصيل، ثم ظهر بلوتينوس الذي عالج النظرة الافلاطونية مضيفاً إليها استعمال القبح في الفن الجمالي ووجدت نظريته طريقها إلى الانتشار، وتأخّرت جماليات أرسطو بعد أن برزت أمامها الأفكار الجمالية التي كان يدعو إليها القديس أجستون (أوغسطينوس) امتداداً لجماليات لوتينوس والتي تقول: (إن الله سبحانه وتعالى هو أعظم درجات الجمال وإن كل جمال هو من صنعه، وطالما إن الله هو خالق العالم فإن العالم كامل لا ريب في ذلك أما القبح فما هو إلا أخدوعة، وصور مضللة للبصر كالوهم تماماً، كما وإن الفن يمكن احتماله إذا ما أصبح في خدمة العقيدة الدينية).
ثم بالمقارنة بين الجماليات بعضها البعض نكتشف أن القديس توماس وبعناصر الإدراك الجمالي عندما سار إلى التعديل والتبديل، رغم ارتكازه جزئياً على جاليات أرسطو وقواعده قد جعل مفكري عصر النهضة يثورون على تعاليمه بعد أن نظروا إلى الجماليات السابقة بنظرة عصرية تتناسب مع عصرهم، وهو ما جعل ذلك العصر العصر الذهبي للفنون حقيقة، بعد أن أصبحت مهمة الفنون هي البحث عن قوانين جمال الطبيعة وتسجيلها ميراثاً للأجيال.
وظل الحال هكذا حتى جاءت جمالية المذهب الحسّي في عصر النهضة على يد (لوك)، وهي جمالية تبحث في اللجوء إلى الموضوعات المثيرة في الأدب والفن، وأثر ذلك في النفس ففرَّعت أفكاراً جديدة للأحكام الجمالية، منها: أن مصدر القرارات والأحكام الجمالية ليس فقط هو العلامات أو الخصائص المدركة بالحواس في الظهور الخارجي، وإنما هي أيضاً الأحاسيس الذاتية التي تعتمل داخل النفس بأثرها وتأثيرها، بينما يرى لايبنتز الألماني أن ما نعثر عليه من اكتمال العالم عن طريق العقل يعني الحقيقة، بينما يجعل منطلقه الثاني يتحدد داخل ما نعثر عليه عبر الأحاسيس أو المشاعر (يعني الجمال) حتى ولو كان عبر صورة غير مكتملة تماماً أو هي ناقصة مبتورة، إلا أن (كانت) أعطى استقلالية تامة لعلوم الجمال أو فنون أخرى فقد فصل الجمال عن الارتياح وعن الخير وعن الحقيقة وليحقق وجهة نظره من ظهور الجمال بلا مصلحة نفعية وليصبح التعبير عنه تعبيراً مستقلاً بحتاً.
هذه عدة نظريات للفلاسفة في عصور متفاوتة عبّرت عن الجمال من خلال العصر الذي نشأت منه النظرية، وهناك نظريات أخرى اختلفت فيما بينها بطبيعة الحال عند الفرد المعبِّر عن مجتمع من المجتمعات، لأن الموصلات الجمالية تكون مختلفة تماماً لكنها تصبُّ في مجرى واحد هو أهمية الجمال في إبراز الجانب المضيء في الحياة الإنسانية والحياة الاجتماعية.
إن شخصية الإنسان تتغير مع مجتمعه نتيجة تطوّر هذا المجتمع لكن النوعيات الجمالية مطالبة هي الأخرى بأن تحمل عناصر هذا التطوّر، وتكشف عن هذه التطورات التي قد تغيِّر مجتمعاً من العبودية إلى الانعتاق، ومن ضعف الذوق إلى ارتفاع منسوبه، ولعل علم الجمال في العصر الحديث لا يتوقف على المشاكل التي قدّمت لها ذلك لأن جهوداً جديدة قد قامت حديثاً لبحث الجمال وقياسه وتأثيره على الحياة الإنسانية العامة، ثم على الإنسان ــ الفرد ــ بصورة خاصة ولعل أهم دليل على عمق الجمال وأهميته من أن البحث لم يزل منذ أكثر من قرنين ونصف من الزمان.
لقد بحث العلماء والفلاسفة عن علم الجمال كمصدر ونشوء ويدلنا تاريخ التفكر في الأصول الجمالية أنها تتجسّد في الخلق الذي يعزي نشوء الجمال إلى الله عز وجل الذي خلق العالم فجسّده أحسن تجسيد وأجمله وسط عالم الطبيعة وعالم الإنسان وعالم الطيور والحيوان في اعتزاز بالإنسان أحسن الخلق.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق