الخط العربي ملهم الفنون التشكيلية المعاصرة..

ان مسألة استلهام التراث هي قضية حيوية دلت على نفسها من خلال تأثير الفنانين الغربيين بها، بأخذهم من مناهل الشرق الفنية الشيء الكثير بقصد البحث عن ذواتهم وشخصياتهم ضمن صيغ جديدة ووفق وعيهم الخاص وإبداعهم الفني.

لقد ظهرت مكانة الخط منذ أوائل القرن العشرين في مجموعة من التوظيفات التعبيرية والتجريدية والتكعيبية في الساحة الفنية، اذ جلب الخط العربي انتباه الغرب سواء بسبب بنيته الفنية الطريفة كما في الخط الكوفي او بسبب التزيينات التجريدية التي كانت ترافقه، مما حدى ببعض فناني الغرب والشرق الاقصى الى استخدامه في ذاته واعتباره شكلاً تجريدياً وعنصراً زخرفياً خالصاً من عناصر العمل الفني.. على الرغم من ان البعض منهم لم يكونوا يستطيعون قراءته او ادراك ما تحمله الكلمات العربية ورائها من المعان، .وهذا يعني ان الخط او الحرف العربي حيثما مر واستقر ثمة مبدعون فيه يتواصلون معه ويطورون في رسمه ويؤكدون في اصوله وفروعه.

وقد علقت الامم الشرقية والاوربية اهمية كبيرة على الخط المعبر ففي القرون الوسطى نجد الحروف الابتدائية الكبيرة المزينة بمختلف انواع الزخرفة اما في زمن فن الباروك او الركوكو.. فكان الفنانون يزينون الصحف كلها، وكلما زاد الخط تشابكاً وغرابة زاد الخطاطون فخراً وعزاً، كما اخذ فنانون الغرب يقدرون حسن الخطوط العربية حق قدرها سواء كانت في الشرق الادنى اوفي الشرق الاقصى، اذ قادت التوجهات المعاصرة نحو الفن الاسشراقي في استلهام الحرف العربي والحرف الصيني والخطوط اليابانية حيث تنبه الفنان الغربي الى تلك الخاصية البارزة في الجانب الروحي والطاقة الديناميكية والجمالية الخاصة بهذه الحروف, فصارت صنعة الخط قسماً من اقسام الصنعة التصويرية، اذ ينفصل الخط عن المعنى والافادة.. أي بمعنى ادق ان النصوص لا تقرأ بل تحل محل التصوير جماليا.

ففي الشرق الاقصى عدت مفردات الكتابة الصينية في بادئ الامر علامات تمثل كل منها كلمة او فكره مجرده متضمنه لقيمتين احدهما فلسفية بوصفها رمزاً، والاخرى فنية بوصفها صورة، ومن النادر ان نجد لوحة او عملا خزفيا من نتاجات الفن الصيني او الياباني القديم تخلو من عناصر الكتابة الى جانب الرسم، فقد برزت مهارة الفنان في رسم الحروف والكلمات على اللوحات الفنية والنتاجات الخزفية فكانت تتضمن ابيات شعرية او رموز ونقوش خطية وظفت لا عطاء تاريخ صنع العمل الفني وعادة ما كان الخط يشمل اليوم والشهر بالإضافة الى السنة التي رسمت فيها القطعة، كما توجد رموز تشمل علامة صانع الخزف ورموز اخرى تضم التمنيات الطيبة والنصائح.. ويبدو من استخدام هذه العبارات انها وظفت قبل ذلك في اغلب نتاجات الفن الاسلامي.

ومن الجدير بالذكر ان كتابات الشرق الاقصى لم تأخذ طابع الصورة الخالصة منذ ان سلط عليها ضوء التاريخ المسجل، وعليه فهي لم تكن كصورة محضة او مجرد رمز لا اكثر وانما كانت الكتابة الصينية صورة ورمزاً، ولعل مقولة البعض في " ان الصورة والكلمة في تفاعل دائم متبادل  لا تكف احداهما بحثا عن الخرى " لتصدق الى حد كبير على فعل الفكر عند فناني الشرق الاقصى.

وبدأ الفن الحديث يكتشف الطاقة الكامنة خلف الاشكال الحرفية وما لها من مزايا خفية فتبناها واعاد صياغة تركيبها مرة اخرى على وفق معايير جديدة مانحاً اياهاً فكراً وروحية مختلفة اغنت بذلك الشكل الفني بقالب جديد، وبهذا فالمتلقي لا يستطيع قراءتها اوفهم المقصود منها، لأنه لا معنى واضح لها، او لكون احرفها صغيرة جداً او لأنها عبارة عن احرف متشابكة مرتبة فحسب وعليه فالحروف والكلمات تحققت في النتاجات الفنية بتحقق نوعا من الحركة الذهنية المقصودة التي تضيف متداعيات حول المضمون الروحي والحضاري للغة وكلماتها.

كذلك يمكن للحروف او الكلمات ان تحتل جزءا محددا من مساحة اللوحة او العمل الفني – كما هو الحال في اللوحات العاشورائية بانواعها - الى جانب العناصر التشكيلية الاخرى سواء الزخرفية او اللونية المجردة او التشخيصية او بشكل كلي.. فعندها لا تتضمن اللوحة سوى الخطوط الممثلة لحروف الكتابة او المحورة عنها  او بعض من الابيات الشعرية المبعثرة التي تخص موضوع اللوحة،  بالإضافة الى ذلك فان توظيف الحرف في الفن العربي لم يقتصر على فنون الرسم والنحت والطباعة وانما ظهر أيضا في فن الخزف حيث نال الحرف اهتمام الخزافين العرب والغربيين فاغنى تجاربهم الفنية من حيث رسم الحروف اونحتها في نتاجاتهم الفنية، حيث نفذت الاشكال الحرفية بصورة غائرة وفق حقول عمودية وافاريز، وهذه الطريقة في التنفيذ تعود بنا الى النقوش الكتابية المستخدمة في المسلات والاختام الاسطوانية في حضارة وادي الرافدين.

وبما ان توظيف الحرف يمثل حركة فنية معاصرة تستلهم المعاني الجديدة والافكار الا اننا نجد في بعض الاعمال الفنية خصائص ومرجعيات تاريخية في توظيف الحروف بأشكال متنوعة اعتمد الفنان توزيعها على السطوح الفنية على هيئة نقوش كتابية مرتبة لتتداخل مع العمل الفني بادق تفاصيله، لتتخذ الحروف العربية في نتاجات الفنانين صيغة متحررة تماما عن الاصول والقواعد الملزمة للكتابة، واضحت فنا تجريديا وشكلاً زخرفيا تجميلياً خالياً من القيم الادبية او الفلسفية مستغلين خصائصه وكثرة اشكاله وقابليته على التمدد والتقلص والمشاكلة الفنية، لتعلو اهمية الحرف العربي عبر التاريخ ليصبح عنصرا زخرفيا ثم تكوينياً في العمل الفني وليأخذ الفنان شرقيا كان ام غربيا على عاتقه مسألة توظيف واستلهام قيمة مهمة من قيم الحضارة - الذي يعد ممثلها الشرعي- ومن ثم مواكبة النهضة الفكرية في العالم وبالخصوص في النصف الثاني من القرن العشرين، في سبيل الكشف عن قيمة الحرف الروحية والمادية معاً بواسطة التعبير الحرفي.

وهكذا استهوت الحروف العربية اغلب الفنانين من رسامين ونحاتين وخزافين، انطلاقا من قضية الارتباط بالموروث الحضاري والفكري والكامنة في ايمان الفنانين به... وكيف لا! وهم قد وجدوا في الحروف العربية ينبوعآ لا ينضب للقيم الجمالية فرؤوس الحروف وبداياتها تتخذ شكلا قويا واضحا بسيقانها الممتدة ونهاياتها التي ترق وتشف حتى تختفي، وهي غنية بالخطوط الرأسية والافقية والمنحنيات والمدات بالاضافة الى التشكيل فكل هذه العناصر شديدة الثراء الفني والتنوع.

ومن هنا يمكن القول ان توظيف الحرف العربي في النتاجات الفنية الشرقية او الغربية المعاصرة كظاهرة جمالية وفنية تأخذ مكانها بين مدارس الفنون التشكيلية المختلفة دون اغفال الجذور وبذلك اصبح الحرف جل انتباه الفنان والذي حاول ان يكسبه بعدا حضاريا جديدا عن طريق اخضاعه للشكل الفني المعاصر، فأمست الحروف اليوم عنصرا تشكيليا لتحقيق ايقاعات جمالية خالصة بالإضافة الى المضامين المتعددة التي يحققها الفنان من خلال توظيف الحرف في نتاجاته الفنية الابداعية.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات