إن معظم إرساليات التواصل الإنساني الجمالية ذات النسق العلامي الذي يدرس العلاقة بين الدال والمدلول تحمل قيماً ما ورائية.. وقد اكتسبت منها الاعمال الفنية بحقبها الزمنية المتتالية سمات علامية بيئية أفرزتها ذاكرة التناسي، وذلك ما نلاحظه بأعمال كثير من رواد المدرسة العاشورائية والفن الحسيني المستمدة من قضية سيد الشهداء سلام الله عليه، التي ولدت ضغطاً روحيا اجتماعيا وسياسياً انعكس في نهاية المطاف على افكار الفنان الذي عمل على توظيف تلك المضامين التي تفرضها تلك القوى، إذ وظف الفنانون معطيات الذاكرة الروائية المنقولة لواقعة الطف وما قبلها وبعدها عبر الفترات الزمنية المختلفة.. منكفئين على مادتهم البصرية الذاتية وعلى لا وعيهم ومخيلتهم الواسعة المسندة بالمرويات المتواترة، ومن ثم راحوا يلتمسون من المكونات الأكثر تأثيرا لهذه التجربة الداخلية بعداً جمالياً روحياً بعيداً عن كل ما يحيط بهذا الواقع من فضاءات خارجية تحاول التشويش او تغيير الحقائق واحالتها الى اساطير تتداولها الالسن فحسب.
وتعد ملحمة عاشوراء واحدة من تلك الارساليات الانسانية الجمالية التي شغلت الحيز الاكبر من المواضيع الرئيسية لمدرسة الفن الحسيني وبالخصوص ما رسم منها على جدران المقاهي الشعبية في بعض دول الشرق مثل ايران ومدن الدول المجاورة لها.. وقد اختصت هذه الرسوم بتوثيق بطولات شخصيات اهل البيت عليهم السلام والاحداث العظيمة في يوم العاشر من محرم الحرام، حيث تروى في هذه المقاهي القصص والملاحم على الملأ الجالسين من قبل الرواة، مراعين بذلك الجانب الملحمي لواقعة الطف مع التزام الحداد ومظاهر الحزن والالم، فإن السرد والحداد والفن الملحمي المرسوم على جدران المقاهي تلعب دورا كبيرا باستذكار واقعة كربلاء الاليمة واظهارها بدلالات جمالية وروحية فنية معبرة ومؤثرة في المجتمع.
اللوحة اعلاه احدى رسوم الطف الملحمية المنفذة من قبل احد الرسامين الاوائل لمدينة كارمنشاه الايرانية، وقد نفذت بأسلوب رسوم القهوة خانة و بتقنية الرسم على سطح مقطع من القاشاني المزجج.. ونحى فيها الفنان منحاً تسجيلياً للوقائع بتسلسل تاريخي مميز للمشاهد ، في محاولة لترجمة النصوص والمرويات التاريخية الخاصة بالواقعة بدقة متناهية ومن ثم نقلها الى المشاهدين والمستمعين للرواة في نفس الوقت ليتم من خلالها الاتحاد الوجداني مع الحدث، فهي تمثيل حي ومؤثر لفكرة جوهرية تصاغ بأشكال متعددة ومتنوعة مؤثرة.
يمثل العمل برمته مشهداً مزدحما متداخلا لمعركة الطف ويبدو ان الرسام قد وفق بإعطاء إحساس بصخب المعركة وزحمة التلاحم فيها، من خلال الدلالات الواضحة بملمس أدواتها عبر استخدامه لكل أنواع الخطوط الشاقولية والأفقية، المنحنية والمنكسرة، واستخدامه اتجاهات الطول والعرض والشمال واليمين، فأشغل مساحة كبيرة من اللوحة وحقق فيها التنظيم والتغير في حركات شخصياتها من خلال الوجوه والأيدي و الأجساد والاسلحة المستخدمة، حيث اعتمد الفنان تقنية التساوي في الكتل وتلازمها وتكرارها ليعطي إيقاعا صاخبا يمثل مضمون مشهد المعركة، ومتبعا في نفس الوقت والمكان التبادل اللوني بين الغامق والفاتح لينتج اكثر من مركز بصري حسب المقطع المراد تحديد النظر اليه – اللوحة مقسمة الى قطع من القاشاني المزجج وبالتالي عمد الفنان الى جعلها مقاطع متجاورة من الاحداث - اختصت بالمشهد كإفراز ناتج عن المركز الرئيسي اعلى يمين اللوحة بالنسبة للمشاهد، واتى ذلك بإشارة دلالية تؤكد الواقعية لتحقيق علاقة الرحم بين المراكز المتعددة المنتشرة بين مقاطع اللوحة، مع التأكيد على ابراز الوحدة الشكلية في الوجوه والفعل، والوحدة اللونية في الأزياء وتبادل اللون المكانــي، بغية تمييز شخص الامام الحسين واخيه العباس سلام الله عليهما تطابقاً للمرجعية التاريخية ومرويات المعركة.
من هنا نستطيع القول.. ان من خلال متابعة حبكة هذا العمل الفني او أي من نتاجات مدرسة الفن الحسيني فأننا سنجد انفسنا امام انساق فنية جمالية وتداولية محملة بمنظومات علامية مدركة أصلاً بكل تشكلاتها الأيقونية والأشارية.. كانت هي الأساس الذي تم عليه بناء اشكال وعناصر اللوحة، مع عدم إغفال ذات الفنان وحلته الوجدانية كعنصر أساسي في التمثلات الشكلية، إذ أن الرسام لا يريد أن يظهر مصير مقدساته بشكل مجرد مغلوب عليه.. فهو يمثلها على سطح اللوحة بملامح احتفائية، على الرغم من تكالب وتكاثر الأعداء وكثرة الاشخاص واسلحتهم، كما موضح في اللوحة اعلاه وبالخصوص في العلى اليمين حيث صفاء هيئة المعصوم دون غيره وبساتين النخيل والماء من خلفه، فضلا عن الخيل بلا فارس والراية الخفاقة بتعبيرها الكبير ( نصر من الله وفتح قريب)، ليستمر الرسام بسحب المشهد نحو اليسار ويزداد زحام الاشخاص و الكتل وتلاصقها صعوداً إلى أعلى يسار السطح التصويري واسفله باتجاه اليمين، وهنا يظهر الفنان كما هو معتاد اشارة ودلالة واضحة عن معنى اليسار وقبحه عقائدياً ويبدو ان الرسام قد وفق في اظهار ذلك.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق